تحل هذه الأيام ذكرى واحدة من أبرز الحوادث الدرامية في التاريخ القديم، وهي اغتيال القائد الروماني الشهير بومبيوس الكبير أو "بومبي"، الذي انتهت حياته على شواطئ مصر في لحظة فارقة جمعت بين السياسة الدولية وحسابات العرش البطلمي. ورغم أن بومبي كان أحد أعظم قادة الجمهورية الرومانية، فإن نهايته جاءت على يد الملك المصري الصغير بطليموس الثالث عشر، في واقعة لا تزال تُستحضر حتى اليوم كواحدة من أكثر مشاهد التاريخ قسوة وغموضًا.
وُلد بومبي عام 106 قبل الميلاد، وسرعان ما أثبت نفسه كقائد عسكري بارز، شارك في عدة حروب توسعت خلالها سيطرة روما على مساحات واسعة من العالم القديم. شغل العديد من المناصب السياسية والعسكرية بين عام 70 قبل الميلاد وحتى عام 52 قبل الميلاد، وبفضل نجاحاته أصبح أحد أقطاب "التحالف الثلاثي" إلى جانب يوليوس قيصر وكراسوس.
العلاقة بين بومبي وقيصر لم تكن مجرد تحالف سياسي؛ بل عززها الزواج، إذ تزوج قيصر من جوليا، ابنة بومبي، ما جعلهما عائلة واحدة في فترة من الفترات. غير أن هذا التحالف بدأ يتفكك في أربعينيات القرن الأول قبل الميلاد، ومع وفاة جوليا فقدت العلاقة الشخصية قوتها، لتبدأ المنافسة الدامية على زعامة روما.
مع احتدام الصراع بين بومبي وقيصر، اندلعت الحرب الأهلية الرومانية التي بلغت ذروتها في معركة "فرسالوس" عام 48 قبل الميلاد. خسر بومبي المعركة، واضطر إلى الفرار بحثًا عن ملاذ آمن. وقع اختياره على مصر البطلمية، حيث كان يأمل أن يجد دعمًا من الملك بطليموس الثالث عشر، الذي كان لا يزال في بدايات حكمه.
قرار بطليموس الثالث عشر.. اغتيال بدلًا من المساعدة
بطليموس الثالث عشر، الذي تولى الحكم عام 51 قبل الميلاد وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، كان يحكم إلى جانب شقيقته الشهيرة كليوباترا السابعة. ومع تصاعد الخلاف بينهما، أصبح بطليموس يسعى لتثبيت سلطته بشكل مستقل.
حين وصل بومبي إلى مصر طالبًا العون، وجد الملك الصغير نفسه أمام معضلة كبرى: هل يساند بومبي المهزوم ويغامر بإغضاب قيصر منتصر، أم يتخلص من بومبي ليكسب ود قيصر؟ اختار بطليموس الخيار الثاني، فأصدر أوامره لمساعديه بقتل بومبي على شاطئ الإسكندرية في سبتمبر 48 قبل الميلاد.
كان عمر بطليموس وقتها لا يتجاوز 15 عامًا، ما يجعل القرار محاطًا بتأثيرات مستشاريه، لكنه في النهاية ارتبط باسمه كواحد من أكثر القرارات الجريئة – وربما المتهورة – في تاريخ الأسرة البطلمية.
اغتيال بومبي.. صدمة للعالم القديم
كان بومبي قد صعد إلى سفينة صغيرة أُرسلت لاستقباله، لكنه قُتل غدرًا قبل أن تطأ قدماه اليابسة. هذه النهاية المأساوية لقائد عظيم أثارت موجة من الصدمة في روما والعالم القديم.
والمفارقة أن القرار لم يحقق غايته، إذ لم يُظهر قيصر أي امتنان للملك الشاب. على العكس، استاء قيصر من مقتل غريمه بهذه الطريقة، ودخل مصر ليحسم صراع السلطة بين بطليموس الثالث عشر وكليوباترا. انتهى الأمر بهزيمة بطليموس وغرقه في نهر النيل عام 47 قبل الميلاد، لتخسر مصر ملكها وتدخل مرحلة جديدة من التبعية لروما.
أثر الحادثة في التاريخ
اغتيال بومبي لم يكن مجرد تصفية حسابات شخصية، بل كان حدثًا فارقًا غيّر موازين القوى في البحر المتوسط. فقد أزاح العقبة الأكبر أمام يوليوس قيصر، الذي عاد بعدها إلى روما ليعزز نفوذه ويمهد الطريق لنهاية الجمهورية الرومانية وصعود الإمبراطورية.
أما بالنسبة لمصر، فقد أظهرت الحادثة كيف أن حسابات قصيرة المدى من ملك صغير أدخلت البلاد في مواجهة مباشرة مع أقوى رجل في العالم آنذاك، وأدت إلى مزيد من التدخل الروماني في شؤونها الداخلية.
بومبي في الذاكرة الفنية
لم يتوقف تأثير بومبي عند حدود السياسة؛ فقد ظل حاضرًا في المخيلة الأوروبية عبر القرون. ومن أبرز ما ارتبط باسمه لوحة "بومبي يدخل معبد أورشليم"، التي رسمها الفنان الفرنسي جان فوكيه في القرن الخامس عشر الميلادي، بعد قرون من غزوه القدس عام 63 قبل الميلاد. اللوحة اليوم محفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس، كشاهد على استمرارية ذكرى هذا القائد حتى في الفنون.