حازم حسين

أُمَم منقسمة وعربات بلا كوابح.. عن الفيتو وحل الدولتين ودعم فلسطين لنفسها أولا

الأحد، 21 سبتمبر 2025 02:00 م


تنطلق عربة نتنياهو من دون كوابح؛ لأن القدم الوحيدة القادرة على إيقافها، صارت تضغط بثقلها على دواسة البنزين.
وكل ما يمكن أن يُقال عن خطط وتصورات لإنهاء الحرب وافتتاح اليوم التالى، لا معنى لها على الإطلاق؛ لأن الإدارة الأمريكية تُدفّع أجندة الاحتلال فى أسوأ صورها يمينية وتطرفا، وتتولى عنها مهمة ترويض السياسة والقانون والضمير العالمى، بالاحتيال الناعم حينا، وبالتبجح والمجاهرة الفجة فى أغلب الأحيان.

لا بديل عن المحاولة قطعا، والتماس كل السبل الممكنة لإعادة تنظيم الفوضى الموزعة على أرجاء الإقليم. لكن الأمل يبدو فى أشد حالاته ضعفا وانحسارا، والعقل فى أدنى منسوب له طوال عمر القضية بكل فصولها السوداء.

نجح ذئب الليكود العجوز فى استتباع أعظم امبراطوريات الأرض، أو توصل إلى الوصفة المثالية لمغازلة أطماع سيدها صاحب الطموحات العالية، ولا فارق بين الحالين؛ إذ المحصلة أنه يقضى كيفما شاء، ولا راد لقضائه باللين أو الشدة.
حرب غزة الأخيرة غير كل ما قبلها، وقد كشفت عورة العالم، وأخرجت أحشاءه أمامه على الطاولة. الإبادة جارية بلا هوادة منذ قرابة العامين، والاستفاقة المتأخرة غير قادرة على إعادة تصحيح الأوضاع.

وفيما تلجأ العواصم المتأذية أخلاقيا إلى الاحتماء بحل الدولتين؛ كوسيلة لإبراء الذمة وتعويض المنكوبين معنويا؛ يُرَد عليها بديماجوجية من جانب القوميين والتوراتيين، تلوح بضم الضفة الغربية والإجهاز مرة وللأبد على حلم الدولة الفلسطينية المستقلة.

ما يعنى إدامة الصراع فى صيغته الصفرية المتفجرة بالدم والمآسى، أو الاتجاه صراحة ومن دون مواربة إلى غاية الصهاينة الكبرى، بالإجلاء وتطهير الجغرافيا من ساكنيها قسرا أو طوعا؛ وكلاهما ينطوى على الإجبار نفسه، من دون أى هامش للاختيار.

وبعدما تكشّفت الوقائع على طول الشهور الماضية، وتأكدت المواقف بالدليل القاطع مرة بعد أخرى؛ فلا مبرر للصدمة والاندهاش اللذين قوبل بهما موقف الولايات المتحدة فى مجلس الأمن قبل أيام.

صحيح أنها استخدمت حق النقض ضد قرار أعدته عشر دول، وأقرته بقية الأعضاء جميعا باستثنائها؛ إلا أنها الحالة السادسة التى تُضبط فيها متلبسة بالانحياز للقاتل على حساب الضحايا، وإهالة التراب على رأس النظام الدولى الذى أسسته وقادته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يعد محل شك أنه «قائم على القواعد» التى ترتضيها وحدها، ومتعدد الأطراف» شريطة أن تكون تعددية شكلية أولا، ومحكومة بالإرادة الأمريكية دائما وأبدا.

ومن المفارقات الدالة؛ أن يتزامن التصويت الأخير، مع تمرير مجلس الشيوخ لآخر تعيينات الإدارة المُرجأة منذ وصول ترامب للبيت الأبيض، ممثلة فى مستشاره السابق للأمن القومى مايك والتز؛ ليكون مندوبا دائما لواشنطن لدى الأمم المتحدة.

وكان قد انتُزِع من منصبه السابق لأنه تورط فى ترتيبات من وراء ظهر الرئيس، كانت تخص المفاوضات الجارية مع إيران بشأن البرنامج النووى، والتحضير للعملية العسكرية التى وقعت بالفعل فى يونيو الماضى، ويُستقبل فى موقعه الجديد اليوم بموقف من الطينة ذاتها، ليحمل معه انحيازه الصهيونى الغاشم، إلى مقعد لا يغيب عنه هذا الانحياز من الأساس.

والفكرة نفسها تتجسد بأعلى صورها فى خيار سابق كثيرا على والتز، عندما انتُدب حاكم ولاية أركنساس السابق ليكون سفيرا فى تل أبيب، ويقف فى كل المشاهد مدافعا عن السردية الإسرائيلية بأكثر وأوقح مما يدافع عنها أصحابها، واضعا القلنسوة اليهودية على رأسه، وحاملا معه ماضيه كقسيس بروتستانتى، قبل أن يخلط الدين بالسياسة، ويخرج من ماكينة الإنتاج التقليدية ملتحقا بطابور لا حد له من صقور المسيحية الصهيونية.

فكأن الولايات المتحدة تُزايد على نفسها فى الدعم المفتوح لإسرائيل، وتتحرك عقائديا داخل فقاعة مغلقة، تتدحرج بإيقاع متسارع باتجاه ابتعاث المسيح من جديد؛ ولو ظلت الاحتمالات عالية بأن الصهاينة لن يتورعوا عن صلبه اليوم وغدا، كما فعلوها ورقصوا على دمه قبل عشرين قرنا من الآن.

ما تزال مفاعيل العدوان على الدوحة متقدمة على غيرها؛ فالارتياب المتبادل فى أعلى حالاته، ومفاوضات الصفقة الجزئية مجمدة تماما. وكان المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف، صاحب الورقة محل البحث منذ مايو الماضى، قد ألمح قبل أسابيع إلى أن الحرب قد تظل مستعرة إلى نهاية العام الجارى.

ما يُضىء على لعبة التضليل التى ارتضى البيت الأبيض أن يكون جزءا منها، وبكيفية شبيهة بالفخ الذى حُفِرَ لطهران قبل ثلاثة أشهر، وليس بمنطق أن تقدم واشنطن التطمينات لفظا وتتراجع عن إنفاذها عمليا؛ إنما أنها تطرحها من البداية بغرض الخداع، وحرف الأنظار عما يُعَد له فى الخفاء.

وما من شَك الآن فى أنها تولّت ترتيب الميدان على ساحل الخليج العربى قبل أسبوعين تقريبا، عندما زجّت بنسخة معدلة من الاتفاق وطلبت التداول فيها والرد عليها بأسرع ما يُمكن؛ فاستُدعى خليل الحية وبعض رفاقه من تركيا إلى قطر، على أمل أن يجتمع الوفد المفاوض فى مكان واحد، وتُطيح الضربة المخطط لها برؤوس حماس الكبيرة دفعة واحدة.

وقد بدا لعصابة تل أبيب أن القضم من أعلى قد يكون بديلا مثمرا عن مطاردة القواعد فى أرجاء غزة؛ فإما يرتبك الصف بغياب القيادة، أو تطلع قيادات بديلة معبّأة بالهلع والخشية على النفس، فتسلّم بما يتشدد فيه أسلافهم، أو تمهد المجال للتشظى وانقسام الحركة على ذاتها، ودون الحاجة أصلا للتدارس فى مسألة السلطة الوطنية، أو البحث عن بديل مدنى لن تغيب عنه الفصائل المسلحة غالبا.

كان وزير الخارجية ماركو روبيو قد ضرب موعدا لزيارة تل أبيب، قبل أن تبادر الأخيرة بإطلاق صواريخها على الدوحة. ورغم محاولات الإنكار والنأى بالنفس عن العملية، لم تتراجع واشنطن عن سياستها المجندة بالكامل لخدمة نتنياهو وباقة أهدافه، ولا أرجأت وفادة رأس الدبلوماسية الأمريكية بكل ما انطوت عليه من مظاهر دينية ورسائل متغطرسة.

بل أُمعِن فى منحها معانى أكثر صخبا وتبجُّحًا بالنظر إلى تزامنها مع القمة العربية الإسلامية الطارئة، وجرى تأكيدها باختيار أن يطير الوزير من عاصمة المعتدى إلى قصر المعتدى عليه، بعد ساعات فقط من البيان الختامى الغاضب بهمس ناعم، وعقب إعطائه الضوء الأخضر لاجتياح مدينة غزة، والإشراف من النقطة صفر على التمهيد النيرانى لأشرس مراحل العدوان.

تبصُم واشنطن على رؤية إسرائيل الرسمية بشأن الحرب؛ إن كان بإمهالها لحين إنجاز الفصول الدموية المُقرّرة داخل القطاع، أو بمُحاصرة الفوران السياسى المُتّسع خارجيا.

ولا دليل أبلغ من حرمان الوفد الفلسطينى من الوصول إلى نيويورك للمشاركة فى الشق رفيع المستوى لجمعية الأمم المتحدة، خشية إعلان الرئيس عباس عن الدولة من منصة المنظمة، ورغبة فى تبريد الهبّة الدولية وتقييد زخمها مع موجة الاعترافات المُتوقّعة من نحو عشر دول جديدة.

مُورِسَت ضغوط أمريكية على عواصم عِدّة، وسخّف ترامب من خطوة الاعتراف فى عديد التصريحات، وعبّر عن امتعاضه منها فى مواقف أخرى. وبينما ردّدت تقارير بريطانية أن حكومة كير ستارمر ستُعلن عن الإجراء عقب انتهاء زيارة الدولة وإقلاع طائرته من البلاد، مرّ يومان وما تزال الأمور على حالها، والمؤكّد أنه استغل لقاءه بزعيم العمال فى مقرّه الصيفى لإحباط الإعلان، أو إرجائه على الأقل.

نحو 147 دولة تعترف بفلسطين حتى الساعة، وبعد يومين يُنتظر أن يصير العدد 157 إن لم يجدّ جديد. ما يعنى أن أقل من 40 عضوا بالأمم المتحدة سيقفون وحدهم على الجانب الآخر من التاريخ؛ لكن تاريخ العالم منذ سبعة عقود تقريبًا ينفرد الأمريكيون بكتابته، وبإمكانهم أن يُخرجوا لسانهم للجميع دون حَرَج، وأن يُحبطوا إرادة الدنيا بما فيها، وفى تصويت مجلس الأمن ما يُغنى عن كل كلام.

سيكون أفضل لو لم يعترف الراغبون فى الاعتراف؛ إنما لا فارق بين الإقدام والإحجام. حتى أن إسرائيل تفتح شاشاتها لقائد الهبّة الحالية قبل يومين من موعد عرضه البطولى، وتسمح له بأن يقول ما يريد، نافذا إلى الشارع العبرى مباشرةً؛ وبلا خشية من تأليب الرأى العام على الحكومة، أو اعتبارٍ للحلفاء الذين يُهانون من نفايات الائتلاف الحاكم دون ضابطٍ من قيادتهم، أو اعتبارٍ لمواءمات السياسة والعلاقات الدولية.

أطلّ ماكرون على شاشة القناة الثانية عشرة، وأفاض فى الحديث عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وخطايا حكومة نتنياهو طوال الشهور الماضية، وما تنطوى عليه اندفاعة ضم الضفة الغربية من مخاطر وخطوط حمراء.

وأغرب ما فى الإطلالة أن تكون على تليفزيون إسرائيل، وهو الأشد بؤسا فيها أيضًا؛ لا لأن واحدًا من زُعماء العالم الحُر يُخاطب السفّاحين بلغة لا يفهمونها، إنما لأن هؤلاء القتلة يفتحون أذرعهم لعدوٍّ مؤقّت، مُطمئنين إلى أن حديثه لن يُقدِّم أو يُؤخّر غالبًا.

وإذا كان نتنياهو يفرد غلالة شمولية على فضاء الدولة العبرية، منذ الطوفان على الأقل، ويُدير كل شىء فيها بحدِّ السكّين وتحت منطق الحرب، لدرجة إزاحة القانون والمحاكم والرأى العام بكامله جانبًا؛ فإن السماح بلقاء الرئيس الفرنسى لا يُمكن أن يكون عفوًا، ولا فى إطار المُشاحنات الداخلية ونسيج صراعات النخبة والساسة وما بينهم من اختلافات فى الرأى؛ بل يُساق لهدفٍ يراه صاحب الاقتراح، ويُقرّه رئيس الحكومة الذى وافق على المقابلة أو لم يسعَ لإحباطها بأية درجة ظاهرة.

ارتبكت باريس طويلاً، وتعثّرت فى مواقف متضاربة. ولا يغيب عن البال أن ماكرون افتتح تعاطيه مع أحداث السابع من أكتوبر من نقطة الاصطفاف الكامل بجانب إسرائيل، بل وزاد عليها وبقيّة الداعمين بدعواه إلى تحالف دولى لمواجهة حماس، على غرار التجربة السابقة مع تنظيم الدولة الإسلامية «داعش».

استفاق وأخذ يُصحّح مواقفه، وفى ذلك خير؛ لكن مخابيل تل أبيب يُراهنون على بقايا التناقض، وعلى أنه فى مُخاطبة الإسرائيليين سينتهج نهجًا دبلوماسيًّا نوعًا ما، يُبرّد سخونة المُنخرطين معه فى تحالف حل الدولتين، من دون أثر على الصهاينة المُلتاثين بجنونهم، والذين لن يغفروا له الدعوة إلى «فلسطين المستقلّة»؛ ولو شفعها بالمودّة وكل العبارات المُنمّقة.

لن يكون ائتلاف الحُكم فى الدولة العبرية معنيًّا بمواقف الآخرين جميعًا؛ طالما أن الولايات المتحدة ثابتة على العهد. إنما لا مانع من لعبتهم التقليدية فى شقّ الصف وخلخلة الدفاعات، ومحاولة تجزئة الصورة الواحدة إلى عناصرها الأولية، والتهام كل جزء فيها بمعزلٍ عن بقية الأجزاء.

وهو المنطق الذى اعتمدوه فى الحرب تقافزًا من غزة للضفة ولبنان وسوريا واليمن وإيران نفسها، وسيعتمدونه فى السياسة باختزال مأساة القطاع فى سؤال حماس، ووضع السلطة الوطنية أمام هموم وقتية وجغرافية تخص رام الله ومحيطها، والتفرُّغ لكل ساحة بمفردها؛ تحت المظلة الأمريكية طبعًا.

والحال؛ أن مؤتمر حل الدولتين يظل عملاً مهمًّا، والاستثمار فيه وترقية عوائده ضرورة لا ينبغى الانقطاع عنها أو التفريط فيها؛ إنما لا أثر لهذا هُنا والآن، من دون استراتيجية فلسطينية واضحة، وفى سياق مواكبة إقليمية ودولية لديها بدائل موضوعية قابلة للإنفاذ، وأهم منها المسارات الاحتياطية للتغلُّب على خطط التصعيد العدائية، وإحباط محاولات ابتلاع الجغرافيا وإزاحة الديموغرافيا ضمن مُخطط «الريفييرا الترامبية»، وهو لم يُبعَد عن الطاولة ومجال البحث حتى الآن.

والتصوُّر الفاعل يتطلّب أن يُسفر المؤتمر عن إجراءات تتخطّى نطاق الاعتراف، وتُرتّب الخطوات العملية لتسويق رؤية الحل السياسى عبر الفعاليات الأُمميّة، وفى الأُطر الثنائية والجماعية الرديفة.

ومن دون ذلك؛ فقد لا تزيد الدفعة الجديدة عن إضافة أسماء جديدة إلى متحف المُعترفين بفلسطين، ورُكام القرارات والمحاولات الطيّبة لاستبقاء القضية وحلحلة عُقدها المُتضخّمة، منذ قرار التقسيم القريب من التكافؤ، إلى لحظة البحث عن شبرٍ تتجسّد فيه الدولة الضائعة.

والمؤسف؛ أن الوفاق المطلوب يبدو مُستحيلاً بالكُليّة، وليس أدلّ على هذا من تعذُّر المحاولات الأوروبية لاتخاذ مواقف جادة تجاه العدوان الإسرائيلى على غزّة؛ لأن آلية العمل البينية تفرض الإجماع، وثمّة حكومات أقرب إلى نتنياهو وعصابته من الإنسانية والضمير.

ولا نعدَم النموذج إقليميا»؛ فقد تكشّف أن مساحات التنازُع فى أروقة القمة الطارئة لم تقلّ عن الوفاق، وأسفرت عن بيانٍ ختامىٍّ أقل كثيرا من الطموحات.

نشأت الدولة العبرية من رحم التناقضات أصلا، وعاشت عليها، ولا تزال تستثمر فيها إلى اليوم. تداعى الإمبراطورية العثمانية حَمَل حُلم الحركة الصهيونية إلى مدار القبول الغربى، والحرب الكونية الأولى منحتهم وعد بلفور، والثانية أفضت إلى إنهاء الانتداب وإعلان الدولة، والحرب الباردة أبقت المنطقة عُرضة للتجاذبات، ومنعتها من التماس عناصر قوّتها الذاتية، بالتوزّع بين الولاء على الليبرالية الأمريكية أو الركون إلى الشمولية السوفيتية.

وإذا كان الفلسطينيون لا يتّفقون اليوم على تصوّر واحد؛ فلن يكون غريبًا أن يختلف الآخرون فى القضية وعليها، وأن تُهدَر حصّة من الطاقات المُحتمَلَة فى تغذية سيناريوهات ضارّة وقاتلة؛ بالضبط كما وُجِّهَت الجهود إلى النفخ فى أوهام حماس، وتوظيفها أداة ضدّ نفسها وبقية المكونات الوطنية، وإلى الساعة ما يزال العدوّ يربح من الطوفان، ويقبض المغامر على نزق البدايات والاستخفاف بالنهايات، دون رغبة فى التنحّى عن طريق الأذى، أو إفساح مجالٍ للساعين إلى الاستدراك والإنقاذ.

ورقة حل الدولتين تنصّ على إزاحة الحركة وتسليم سلاحها للسلطة، ولعلّها مهمّة لا تقل وجوبًا واستعجالاً عن السعى إلى وقف العدوان على غزّة؛ لأن جانبًا من ذرائع الإبادة يتأسس أصلاً على بنادق القسّام وصواريخهم الهيكلية الفارغة، ولأن دعايات الانقسام و»غياب الشريك» ما تزال حاضرةً فى واجهة الصورة؛ ولو أنكرها الداخل وتعامى عنها الداعمون لفلسطين من الخارج.

قمة الدوحة حضرتها خمس دول لم تُصوّت لقرار حل الدولتين، أو غابت عن جلسة التصويت أصلاً. بعض العواصم تتحفظ على البند فى كل بيان، وغيرها تُجاهر بأنها تقف مع إسرائيل على ضفّة واحدة طالما سار الكلام باتجاه دولة محدودة، لا على كامل الجغرافيا السليبة من النهر للبحر.

وتلك الرومانسية تصلح مدخلا لإبراء الذمة، وادعاء الصلابة العقائدية؛ لكنها تُجسّد الفارق بين الفعل والمُزايدة، وبين التصدّى لأجندة الصهيونية عن وعى وبصيرة ورؤية مُكتملة، أو الانجراف فى تيّارها المصنوع مرحلة بعد أخرى، والتباكى على كل هزيمة جديدة بحماوة الهزائم القديمة نفسها، ودون استشعارٍ للخفة أو الحرج.

إن لم تُدَوزَن الحركة الفلسطينية بمنطق واحد ومحسوب؛ وبحيث تتراجع حماس لتتقدم منظمة التحرير والسلطة بالتزامن؛ فإن مسلسل الإهدار والنزف لن تتوقف حلقاتها، وسيُؤخَذ من الفريقين بالتساوى، ولن تصبُّ صلابة أحدهما لصالح الآخر والقضية، ولن يستفيد الشرعىّ منهما بخسائر الموصوم والمرفوض إقليميا ودوليا.

والعالم يتحرّك تحت ثِقَل الدم والمأساة؛ لكن فاعلية الضمير مؤقّتة وسريعة التبدُّد والانطفاء، ويتعين استغلالها بأقصى صورة وعلى وجه الاستعجال.

الاعتراف؛ فإعلان الدولة، ثم وضع رؤية متكاملة لإدارة غزّة ما بعد حماس، وتعبيد الطريق بين القطاع وبقية الجسد الفلسطينى المملوء بالثقوب والمُشاحنات.

إعلان الحركة عن هزيمتها، وتقبُّلها لذلك؛ على أن يكون لصالح القضية وممثّلها الوحيد المُعترَف به، أفضل من الاعتصام بالغباوة والجهل لحين ورود الإعلان على لسان نتنياهو، وبما لا يسمح بمُنازعته وقتها فى التصوُّر المحمى أمريكيًّا عن خطط اليوم التالى، وعن تحويل البلاد إلى مشاريع عقارية، والمواطنين من ضحايا يستحقّون الاعتذار والتعويض وتطبيع الحياة، إلى كُتلة زائدة تُغازَل بتذكرة طيران وتأمين كُلفة الطعام فى الاغتراب لسنةٍ أو أكثر.

حتى الآن؛ يقف الجميع فى موقع ردّ الفعل. كانت المبادرة الوحيدة من جانب السنوار؛ وارتدّت وبالا على الغزيين وبيئتهم وقضيتهم الوطنية الجامعة. العرب مَدعوّون إلى الأخذ بزمام المبادرة، وأن يشبكوا رؤاهم بالاستفاقة الدولية، ويضغطوا بكل ما وسعتهم القوّة على المُنتفضين والمُحايدين؛ طالما أنهم يعجزون عن ترويض الغول الأمريكى، أو لا رغبة لدى مراكزهم المالية الكُبرى فى اختبار المسألة من الأساس، وبالطريقة التى يفهمها ترامب ويتحسّب لها.

وصلت المباراة إلى شوطها الأخير، والنتيجة لصالح العدوّ بفارق كبير. طريقة اللعب القديمة لن تُجسّر الهوّة الواسعة، والبحث عن التعادُل على الأقل يتطلّب خططًا وتبديلات من خارج الصندوق.

إن كل يومٍ يمضى دون برنامج فلسطينى مُكتمل ومحلّ إجماع، لا يُوصَف إلا بالتواطؤ على الذات أوّلاً، ثم على القضية والتوازنات الإقليمية كلها، والعبء فيه يقع على عاتق الذين فتحوا طريقًا لأحط وجوه الصهيونية نحو لَضم الخرائط وصَهر المُعادلات القائمة، ويُكابرون فى الاعتراف، ويقفون حجر عثرة أمام بناء موقف إقليمى ودولى لا تنازُع فيه أو شقاق.

نتنياهو لن يتغيّر، وبدائله قد لا تقلّ جنونًا وانتهازية، والمظلّة الأمريكية قرّرت أن تُضحّى بشرفها دون حرج. والرهان يجب أن يبدأ وينتهى فيما بين النهر والبحر، وتحت رعاية القوى الصلبة سياسيا، النزيهة أخلاقيا، وغير الباحثة عن أدوار ومنافع من رصيد المنكوبين المُهدّدين بالقتل والطرد.

لا قيمة لأية مُساعدة خارجية؛ ما لم يُساعد الفلسطينيون أنفسهم أوّلاً، ولن يحدث هذا طالما أن الشعارات تسبق العقل، والأيديولوجيا تعلو على الوطن، وخطّ الرجعة يُحسَب من منظور فصيل، ويُحتَكَم فيه إلى إرادة تتجاوز أُفق المأساة ومجموع ضحاياها الأبرياء.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب