حازم حسين

إغراء بالنصر واصطياد بالعاطفة.. عن طوفان نتنياهو والسنوار وغزة المُكلّفة بأخطاء الآخرين

الثلاثاء، 02 سبتمبر 2025 02:00 م


فقدت حرب غزة سياقها الخاص، وثنائيتها المغلقة على الاحتلال والمقاومة. أو أفقدها نتنياهو تلك الصفة متعمدا؛ لأجل إلحاقها على بقية الجبهات المفتوحة، والعكس، وبحيث تكون عقدة إضافية فى ذيل المخطط الإسرائيلى السارح على امتداد المنطقة، ومنصة لإدامة السخونة ومسببات التصعيد.


كانت مقصودة لذاتها قطعًا، وما تزال؛ لكن أخطر ما فيها أنها شُبّكت بخطوط الصراع الناشئة عنها، ولم يعد ممكنا تصفية أحدها بمعزل عن الآخر، ولا افتراض أن القطع من أية نقطة قد يُعطب آلة القتل، ناهيك عن معرفة المكان والزمان والكيفية المناسبة لإعلان تلك القطيعة المثمرة.
غالب الظن أن الطوفان كان غاية عليا تنتهى إليها آمال حماس وقائدها يحيى السنوار؛ لكنه لم يتجاوز نطاق الوسيلة والذريعة لدى حكومة إسرائيل. ولهذا توقفت دراما الفصائل بمجرد اقتحام غلاف غزة، فيما كانت عجلات زعيم الليكود وعصابته اليمينية تبدأ الدوران.


ومن يومها يسحب الطرف الأول على المكشوف، بعدما تبدد رصيد السنوات ووعود الحلفاء فى الممانعة، ويُراكم الثانى مكاسب صافية، وكلما أحرز منفعة مباشرة يتطلع لما هو أكبر، ومن دون التضحية برأس المال والأصول الثمينة لديه/ أى بالشرارة التى أوقدت له نارا يحرق بها الإقليم، ويسير على ضوئها الذى يشوى الوجوه.


اتُّخذت عملية السابع من أكتوبر منطلقا، وكان الاشتباك مع الحماسيين وشركائهم ستارا لنوايا تتخطى القطاع وتوازناته الهشة.
ومن هذا الشريط الضيق جغرافيًّا، والمُختنق بديموغرافيا كثيفة وفاقدة للأمل والرؤى السياسية، اندفعت حشود الصهاينة لتعيد تكييف المعادلات على امتداد الحزام المحيط بالدولة، وترسيم الخرائط الأمنية والجيوسياسية مع الخصوم الحاليين والمحتملين؛ فاستدرج الحزب ببطء على جبهة لبنان، وتحرش بإيران فى سوريا، ووصل إلى منابع الممانعة بعد جولات منظمة ومحسوبة بدقة، فيما كانت الضفة الغربية موضوعة على نار هادئة ومتدرجة فى استعارها.


حجب غبار غزة كثيرا من تفاصيل ما كان يُعدّ للآخرين، واحتجبت هى وراء غبارهم لاحقا، ووحده غول تل أبيب كان يعرف الطريق ويضع نظارات الرؤية الليلية مبكرا، وقبل أن يُسدل الظلام غطاءه الكثيف على فضاء المنطقة.


ورغم ثِقَل الضربة جنوبا، وما أوقته بالمحتل من إذلال وحط للكرامة، وتسببت فيها من استنفار وتسعير لرغبة الثأر والترويع وإعادة بناء الردع، من جهة تحويل غزة وأهلها إلى أمثولة تراجيدية تضمن ألا تتكرر المغامرة هنا ثانية، وألا يتشجع على استنساخها الآخرون فى بقية الجبهات اللصيقة؛ فإن منسوب التوحش والإبادة كان أعلى كثيرا مما يقتضيه الرد على الطوفان، أو يتناسب مع طبيعة الخصم وفوارق القوة الكاسحة.


وإذ تنفتح القراءة التأويلية على غابة من الاحتمالات، أدناها الدموية الكامنة فى وعى الصهاينة وتحت جلودهم، وأعلاها الرغبة فى تحطيم الوجود والمعنويات تمهيدا لإفناء البشر تقتيلا أو تهجيرا؛ فإن فكرة الوظيفية تظل حاضرة بين باقة الأهداف، وعلى معنى أن تكون المأساة مثيرا عاطفيا ورادعا نفسيا، وأن تحقق لفاعليها هدفا مزدوجا: استقطاب القوى الأيديولوجية للانخراط فى الجولة من نقطة يحددها العدو ويتحضر لها جيدا، وانكسارهم معنويا قبل الاحتكام إلى وسائل الحسم الخشنة.


والقصد أن العنف المفرط كان مطلبا قائما بذاته، وبغض النظر عن فاعليته أو الاحتياج له، وما إذا كان قادرا على إنهاء المعركة سريعا بالضربة القاضية، أو إطالتها وتعميق خسائرها المادية والمعنوية على الطرفين؛ لا سيما الأضعف بينهما بطبيعة الحال.


ولا فارق هنا بين الأهداف الثلاثة للعدوان فى شهوره الأولى، وتعديلها مؤخرا إلى خمسة؛ فالإرادة الإسرائيلية انصرفت مبكرا إلى تعليق غزّة فى سنّارة جيش الاحتلال، واصطياد القوى والميليشيات الرديفة بها، وبمجرد أن يُلتَقط الطعم لن يعود بمقدور أحدهما الانفصال عن الآخر، ولا بوسعهما معا الفكاك من قبضة الصياد.


والتصور السابق على ما فيه من احتداد وقصدية، لا يعفى الحماسيين مطلقا من المسؤولية عما آلت إليه الأحوال فى أنحاء غزة وخارجها. أوّلا لأنهم فتحوا الطريق المغلقة لنتنياهو بمغامرة الغلاف، وأعانوه على قفز الموانع بالرومانسية والإفراط فى التوهمات، ولم يستدركوا على أنفسهم عندما تكشّفت لهم الحقائق، وأفرزت الوقائع ما يجزم بالسير نحو هزيمة كاملة، ومن دون أية فرصة للنجاة أو ترشيد التبعات الثقيلة.


أى أن إسرائيل بنواياها المعروفة كانت تنتظر محفّزا أشد طاقة مما كان فى المواجهات السابقة، وأسّست برنامجها طويل المدى على معرفة عميقة بالذهنية الحماسية، واطمئنان إلى خياراتها الانتحارية المحمولة على قيم الإيمان والثبات والاستشهاد، انطلاقا من أن كل عمل براجماتى يقع بالضرورة فى حيز الانتهازية والنكوص، وأن صدق العقيدة يقاس حصرا بالتصلب والاصطبار على عض الأصابع، والذهاب بيقين البطل التراجيدى إلى أعمق نقطة من المجهول الخطر.


خسر نتنياهو عدّة مئات فى يوم واحد، لكنه تغلب بدمائهم على توتر البيئة الداخلية واشتداد خصومتها لحكومته منذ تنصيبها أواخر العام 2022، تأسيسا على الانقلاب السياسى الذى منحه صفة الإصلاح القضائى، أو على تكشُّف نوايا اليمين المتطرف بجناحيه القومى والتوراتى، ومساعيه لإزهاق الطابع الديمقراطى المُشوّه لمنظومة الحكم، وتحييد المحاكم عن مراقبة السلطة التنفيذية وضبط أدائها؛ ليصير ملكا حقيقيا فى مجال لا دستور فيه ولا حدود أو كوابح نظامية واضحة.


ولهذا؛ لعب السنوار بانتهازية على وتر التناقض البينى فى إسرائيل؛ لكنه كان فى واقع الأمر يلعب لصالح عدوه اللدود، ويُطوّح له طوق النجاة الكفيل برفعه فوق أمواج الطوفان، ناسيا نفسه وحركته وعموم البيئة الغزية؛ فكانوا أول الغرقى فيما توهموا أنهم يغرقون به الدولة العبرية، ويشقون طريقا نحو التحرير الكامل وتبييض السجون؛ كما كانوا يطلبون فى بادئة المقامرة غير المحسوبة تماما.


ما من شكٍّ فى أن إسرائيل كانت مُنزعجة من تنامى قوّة الحزب عند خاصرة الجليل، وإحكام سيطرة الحرس الثورى على جغرافيا الشام تحت مظلّة نظام الأسد. أمَّا قوّة حماس فكانت آخر همّها، ولو أنها استشعرت منها خطرًا حقيقيًّا؛ ما عملت على دعمها المباشر، أو صمتت على تعاظمها طوال السنوات الماضية.


وفى كل الأحوال؛ كان حُكّام تل أبيب يتطلّعون إلى فرصة لإعادة ترتيب الأوضاع من حولهم، ويتلمّسون الأسباب والمُسوّغات الكفيلة بإشعال المواجهة، أو النفاذ إلى حياض الخصوم المتستّرين بالغموض وقواعد الاشتباك التى تواضعوا عليها ضِمنيًّا، ولم يُبدوا أى ميل لاختراقها أو اللعب فى معمارها القائم.


الفتيل أول ما يشتعل؛ لكنه ليس أخطر مكوّنات القنبلة. وهكذا كانت صِفَة حماس فى المشهد، والتعريف الأدق للمهمّة التى اضطلع بها الطوفان، قصدًا أو بالاعتباط. فى المحّكات الجادة والزوايا المفصلية لا يختلف العلم عن الجهل، ولا تغنى النوايا الحسنة عن السلوكيات الواعية، وتقع الكارثة على رأس المُخطئ والمصيب بالتساوى.


وإذ يطلب نتنياهو إفناء حماس، ويعلم أنها مسألة مُستحيلة عمليًّا، باعتبار الطبيعة الأيديولوجية وحقيقة أن الجزء الغاطس منها أضعاف الظاهر، ولن تتعرّى أعصابها بالكامل كحال كل التنظيمات التحتيّة بهياكلها العنقودية وهويّاتها السريّة حتى عن بعضها.


إنما المطلَب يُرفَع لأجل الإحماء لا الإطفاء، وإدامة المطاردة لا البحث فى وقفها. وبالنظر إلى أن غزّة صارت ردمًا وخرابًا، ولا أُفق فيها للحياة اليوم أو غدًا؛ فإن الإصرار على مواصلة تدمير المُدَمَّر لا يُعبّر عن وفرة فى الذخيرة، أو مُجرّد شهوة منفلتة فى القتل. جانب منه يعود إلى نِيّة التهجير؛ لكن جوانب أخرى تتصل بالخواصر المفتوحة عن آخرها فى الهلال الشيعى القديم.


باعث القلق من الحزب ما يزال حاضرًا إزاء الحوثيين فى اليمن، والحشد الشعبى فى العراق، فيما لم تُحسَم المواجهة مع إيران بعد، ولا يُعرَف إلى أى مدىً تضرّر مشروعها النووى، كما يُطمأنّ بالتأكيد لنوايا نظام الملالى وأهدافه الوقتية والمستقبلية، ويُوقن يمين نتنياهو أنه لا سبيل للتعايش مع الجمهورية الإسلامية بتركيبتها الحالية.


وبهذا؛ لا حلّ إلا بتغيير النظام؛ لأنه حالما تبرُد الجبهات سيُعاد تشكيل الأذرع، وستتخذ نظرية الدفاعات المتقدمة صورًا أخرى مُحدّثة، تُراكم الخبرة وتستفيد من سابق العثرات، ولا تتوقف عن المشاغلة والمشاغبة من الخطوط اللصيقة، ومِمّا هو أبعد ظاهرًا وأخطر عمليًّا، فى ضوء طفرة الصواريخ والمُسيّرات لدى رأس المُمانَعة.


قُدِّمت غزّة قربانًا لأهداف لم تُغادر جمجمة السنوار، وقد دُفِنَت معه للأسف، ولا سبيل للوقوف عليها بموضوعيّة من لسان صاحبها. والقراءة اللاحقة لا تنطوى على أى تصوّر عاقل أو مفهوم؛ اللهم إلا لو كان يُراهن على خلط الأوراق وفتح الجبهات على بعضها، مُنتظرًا وحدة الساحات من جانب الحُلفاء، أو استدراج بقيّة دول الطوق وحزام الاعتدال العربى للمواجهة.


المهم أنه لم يكُن يُراهن على قواه الذاتية، ولا على أنه جاهز لمواصلة القتال بلا نهاية، أو التصدّى للارتدادات التى كان يعرف بالضرورة أنها لن تكون اعتياديّة أو فى نطاق الاحتمال.


ربما أراد إحراج الشركاء أو توريطهم؛ ولو صحّ الافتراض هنا فقد نجح  فيه بجدارة. لكن كُلفة النجاح فى ناحية لا تقل عن أعباء الفشل فى بقية النواحى. لقد وفّر للصهاينة ميدانًا محدودا وسابق الاختبار لإمضاء قانونهم الظالم على الضحايا، وأغراهم بالانتصارات السهلة كى يُطوّروا آليات عملهم ويُسرّعوا وتيرتها، وكى يتعجّلوا ما كانوا يُرجئونه اضطرارا.


ومن مرحلة الحسابات الدقيقة قبل الإغارة على غزّة ضمن جولات «جزّ العشب»، إلى توسيع حلقة النار ولَضم البيئات ببعضها؛ حتى أن شعار «وحدة الساحات» سقط من أذهان أصحابه، وما فعّله بالكامل وعلى وجه الحقيقة إلا العدو الذى صُكَّ أصلاً لأجله، وطمعًا فى هزيمته أو التوصّل معه لأقرب صيغة من الندية والتكافؤ.


انتهت الحرب فى غزّة عمليًّا؛ لأن حماس تداعت إلى درجة انعدام الفاعلية، ولو ناوشت بين وقت وآخر بهدمة أو كمين. نزف الغزيون بما يكفى للإقامة فى اليأس عقودًا، وتهدّم القطاع لدرجة لم يعُد فيها صالحا للحياة، بل ربما يتعذّر تعافيه وإعادة إعماره فى أى وقت قريب.


الرهائن تقلّصوا للغاية، والصفقة حاضرة لاستعادتهم مع ترتيبات تضمن تحييد بقايا الفصائل، وتُمهِّد الطريق لإدارة مدنية غير فصائلية أصلا. كل الشروط التى كانت تُرفَع سابقًا على حرفٍ من الإنفاذ اليوم؛ لكن نتنياهو تجاوزها لِمَا هو أبعد، لا لأن المقاومة حيّة وفاعلة، ولا لأن إسرائيل قصّرت فى الإبادة بأعلى صورها؛ إنما لأن الدراما الواسعة ما تزال مُفتّحة الخطوط، والأدوار المنوطة بالقطاع لم تُستَوف بعد على وجهها الكامل.


عاد المجلس الوزارى المصغّر «الكابينت» للاجتماع الأحد. كانت مسألة السيطرة على مدينة غزّة بندًا واحدا على الطاولة، وانصرف أغلب الحوار إلى الرفض المُطلق للصفقة الجزئية، وإلى الترتيبات الخاصة بالضفة الغربية، ومواجهة زخم الاعترافات الدولية بفلسطين تزامنا مع أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وخطط التوسّع الاستيطانى وضم الأراضى من «المنطقة ج» وما ورائها، وربما لم يكن نزع حزب الله خارج البنود، ولا التسويات الرمادية مع السلطة السورية الجديدة، وتحضيرات الجولة المُقبلة مع إيران، وكل الشواهد تُرجِّح أنها وشيكة للغاية.
أخطر ما طُرِح بين الحلقة الضيّقة لعصابة الحُكم، خطة الوزير نير بركات مع بعض العشائر لإطلاق ما يُسمّى «الإمارات الفلسطينية»، مُفتتحًا الفكرة بـ«إمارة الخليل»، سعيا إلى تحويل الضفّة لعدّة كانتونات وجُزر منعزلة عن بعضها، لا صِلة لها بمنظمة التحرير والحكومة فى رام الله، على أن تكون لكلٍّ منها ولاية خاصة على إقليمها، وتعترف جميعًا بإسرائيل دولة يهودية وتنخرط فى الاتفاقات الإبراهمية.


يبدو الطرح شبيهًا بتجربة «روابط القرى» بين عقدى السبعينيات والثمانينيات، وبعيدًا من الارتياح لسابقة فشلها؛ فإن إثارة العنوان نفسه مُجدّدًا وفى سياق التطورات الراهنة يحمل مخاطر لا حدّ لها. أوّلاً لأنه يتوازى مع خطط استيطانية شرهة، قد يرى الفلسطينيون فيها أن الاعتصام بالمدن والعشائر يستنقذ ما يُمكن إنقاذه، لا سيما إزاء العجز المهيمن على السلطة الوطنية، وتطبيع فكرة الانقسام والاستبداد بجزء من الجغرافيا منذ أطلقتها حماس بانقلابها، وتربّحت منها للحركة ورعاتها زهاء عقدين كاملين.


لا يُساق الأمر اليوم على سبيل البحث عن بديلٍ للقوى الوطنية الفلسطينية؛ بل باعتباره طوق نجاة من الابتلاع والتذويب فى المدّ الاستيطانى الكاسح. المُفاضلة ليست بين رام الله وتل أبيب؛ بل بين تل أبيب وفتية التلال وغيرهم من عصابات المستوطنين المُتطرفة، وقد يمرُّ على خاطر بعض الفلسطينيين أن الاحتماء بالجيش وأُطره النظامية، أهون وأكثر أمانًا من البقاء فى عُهدة المجهول مع التوراتيين وأحزاب بن جفير وسموتريتش.


حتى اللحظة يعلو الرفض على القبول؛ لكن الضغوط وانعدام الآمال قد يُطوّعان المواقف، ويُحرّكان الجغرافيا والثوابت الوطنية من تحت أقدام المواطنين.


كانت فلسطين ضائعة قبل الطوفان؛ لكنها صارت أكثر ضياعًا بعده. لأن الجيد الضئيل تبدّد تماما، والسيئ الكاسح قد ازداد سوءا.
انتعشت القضية معنويا؛ لكنها خسرت عناصر قوّتها الذاتية: لعب السلاح مع الاحتلال ضدّ السياسة؛ ثم صار بعد ذلك فريسة سهلة له من دون بديل يملأ الفراغ. والمَدد الذى كان يُعوَّل عليه من الخارج لم يأتِ؛ فقد خُزِلَت حماس من جانب المُمانَعة، ويبدو أن الأخيرة تُخبّئ فى مكنون صدورها شعورًا بالضيِّق والغضب من الحركة؛ لأنها ورّطتها فى مُنازلة لم تكُن راغبة فيها أو مُستعدّة لها، ولم يعُد بوسعِها الإفلات منها بالتضحيات المُمكنة، وكُلفة التنازُل فيها لا تقل عن تكاليف الاستمرار.


يقبض نتنياهو على الورقة التى منحته كل شىء، وإن كان مَدينًا لأحد فى كل ما حققه ويتطلع إليه فإنها حماس، لأنها مكّنته من استعراض فائض التوحش والغريزة الإبادية لدى إسرائيل، واختبار صلابة الدعم الأمريكى وصدق انحيازات ترامب لأجندته، وأعانته على أن يُعيد ترسيم الحدود بالقوّة؛ مُجهزًا على ما تبقّى من رمزية القانون وقيود السياسة.


لقد اخترق المُحرّمات كلّها، وأعلاها الوصول إلى قلب فارس بالطائرات والقنابل الثقيلة، وإجبار العالم على أن يكون شاهدًا على المذبحة ومتواطئًا فيها، وإصدار فرمان من تل أبيب بحرمان عباس وفريقه من الوقوف على المنصة الأُمَميّة فى نيويورك، وأخيرًا لم يعُد أحد يُحدّثه عن المبادئ فى وجهها المُجرّد، بل يترجّون منه الخصم منها دون الجَور على حدودها الدنيا.


تبعيّة حماس للإخوان والمُمانَعة ورّطتها فى رؤى وخيارات «فوق فلسطينية»، وعقائديتها وخفّة وجمود القادة ورّطت الأصوليين والمُمانعين فى أوحال الطوفان. ولا سبيل لتبريد المنطقة قبل إيقاف مأساة غزّة، كما لا أمل فى إنقاذ الأخيرة دون حسم المسائل العالقة فى بقيّة الجبهات، والتوصُّل لتسويات من نسيج واحدٍ؛ لأنهم دخلوا عاشوا ورتّبوا ودخلوا الجولة تحت مظّلة واحدة، ومن تلك الزاوية ينظر إليهم نتنياهو وعصابته اليمينية فى إسرائيل.


ارتداع دويلة الحزب وعودتها إلى الدولة مدخل ضرورى، له وللبنان وفلسطين أيضًا. ليونة إيران صارت واجبًا لا فكاك منه؛ وليس لاستنقاذ ما تبقّى من فرص النظام هناك فحسب، بل للاعتذار للأذرع التى استتبعها وورّطها فى خياراته، والتصويب انطلاقًا من تحرير الأوطان والتابعين المُلحقين عليها. إعادة بناء السرديات بنكهة وطنية صافية، وبما لا يخلط العِرقى والمذهبى بالوطنى والإنسانى، ولا يُوظّف القضايا العادلة لاختراق الجغرافيا والديموغرافيا لصالح أهداف ظالمة.
كما بدأت الحرب يجب أن تنتهى؛ وبمنطق الهندسة العكسية يجب تُرتّب طهران أوراقها بعيدًا عن بقية الساحات، وتُحرِّر الحزب من الإملاء والولائية المُغلقة، ليصير بإمكان لبنان أن يعزل نفسه عن الاشتباك، بالتزامن مع الترتيبات المشبوهة بين الجولانى ونتنياهو، وإبعاد الحوثيين عن مشاغبات الأطفال التى تُسبِّب الفوضى ولا تُحقّق منفعة حقيقية.


وفى الأخير بعد كل هذا؛ سيصفو وجه فلسطين لأهلها، ووجيعتها أيضًا؛ شريطة أن تعرف حماس أن عليها ديونًا تجاه البشر والحجر والقضية الجامعة، وأن الطوفان صنيعة الانقسام والاستبداد، بقدر ما هو صنيعة المُمانعين والصهاينة، وأن الهزائم لا تُداوَى بالإصرار عليها، وقد تكون بعض التنازُلات أقيم وأكثر صدقًا وإخلاصًا ونضالاً من الشعارات وخُطب المنابر.
أمّا فاصل الإجادة عن الإخفاق؛ فحدّه الوحيد هل كنت مُفيدًا لأهلك وقضيتك؛ أم أعجزت الصديق وأَعَنْتَ العدوّ، وأعدت البلاد والعباد عقودًا للوراء، ولم تدفعهم شبرًا واحدًا للأمام.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب