بيشوى رمزى

معضلة الأمم المتحدة.. الحاجة إلى "السيادة" في زمن الانقسام

الخميس، 11 سبتمبر 2025 09:16 ص


على الرغم من أن الدعوة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي بإصلاح الأمم المتحدة، ليست جديدة على الإطلاق، فقد سبق وأن تبنت الدولة المصرية العديد من المبادرات في هذا الإطار خلال السنوات العشرة الماضية، إلا أن دعوة الإصلاح هذه المرة، تبدو مختلفة في ضوء العديد من المسارات، أولها يتمثل في التوقيت، في إطار الظروف الدولية المحيطة بالعالم، والتي باتت تمثل خطرا داهما على مستقبل المنظمة الدولية الأكبر، سواء جراء المستجدات في غزة، أو تمدد الصراع العالمي نحو مناطق جديدة نسبيا تمكنت خلال عقود طويلة من النأي بنفسها جغرافيا عن المواجهات العسكرية المباشرة، وهو ما يبدو في الأزمة الأوكرانية، بينما يبقى المسار الآخر مرتبطا في مناسبة الدعوة، والتي جاءت خلال كلمة السيد الرئيس في قمة "بريكس"، والتي باتت تمثل جزءً مهما من العالم، ربما عانى كثيرا جراء التجاهل الدولي.

والواقع أن المستجدات الأخيرة، كشفت بما لا يدع مجالا للشك أن استقرار المنظومة الأممية منذ تأسيسها في الأربعينات من القرن الماضي كان مرهونا بمحدودية الانقسام على الساحة الدولية، فخلال مرحلة الحرب الباردة، انقسم العالم بين معسكرين، أحدهما غربي بقيادة أمريكا، وآخر شرقي بقيادة سوفيتية، بينما تراجع الانقسام بصورة كبيرة مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وهيمنة الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، فصار خصوم واشنطن تحت المقصلة الأممية، وحتى عندما تنامى خصوم أمريكا، وعلى رأسهم الصين وروسيا، نوعيا وتصدوا لبعض دعواتها أمام مجلس الأمن، منها غزو العراق في 2003، تمكنت إدارة جورج بوش الإبن آنذاك باستبدال الشرعية الأممية بتشكيل تحالف دولي، مصغر عسكريا، عبر مشاركة رمزية لبريطانيا وفرنسا، وواسع سياسيا، عبر الدعم الغربي ودعم الحلفاء، في مختلف مناطق العالم، مما ساهم في التغطية على فشل الأمم المتحدة، في ذلك الوقت في كبح الجماح الأمريكي والرضوخ لقراراتها.

إلا أن الحالة الراهنة، باتت أكثر انقساما، إلى الحد الذي تجاوز حقبة الحرب الباردة، بل والانقسامات صارت أكثر تشعبا، فلم يعد هناك مكانا على الساحة الدولية للتحالفات، بمفهومها التقليدي، والقائم على الرؤى الموحدة، وهو ما طال الغرب، وساهم في التأثير بصورة كبيرة على نفوذه الدولي، فالعلاقة بين واشنطن وحلفائها في أوروبا الغربية لم تعد كما كانت، في ظل الخلافات العميقة، فيما يتعلق بالعديد من القضايا، بدءً من التعريفات الجمركية، والأوضاع في أوكرانيا، وحتى بزوغ أطماع واشنطن في الهيمنة على أراض خاضعة لسيادة دول القارة، على غرار جزيرة جرينلاند في الدنمارك، وهي الخلافات التي دفعت قطاع كبير من دول القارة نحو التحليق بعيدا عن الفلك الأمريكي، وهو ما يبدو في التحول نحو الاعترافات الأحادية بالدولة الفلسطينية، في تحد صريح للقيادة الأمريكية، مما دفع إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى استخدام سلطته في كون بلاده هي دولة المقر الأممي، في منع دخول الوفد الفلسطيني المشارك في اجتماعات الجمعية العامة من دخول الأراضي الأمريكية في خطوة تقوض تماما دور المنظومة الأممية.

الأزمة هنا ليست أزمة ميثاق، تحتاج الأمم المتحدة إلى تعديله، وإنما تتجلى في الإجابة على تساؤل يبدو جديدا، يدور حول ما إذا كانت المنظومة الأممية في حاجة إلى قدر من "السيادة"، حتى تتمكن من فرض إرادتها على الدول الأعضاء، على الأقل فيما يتعلق بجوانبها الإجرائية والإدارية، بعيدا عن قراراتها بشأن القضايا الدولية.

ولعل الحديث عن مفهوم السيادة فيما يتعلق بالمنظمات الدولية، جديدا في ظاهره، ولكن من حيث التطبيق العملي فهو ليس كذلك، فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، تمتع بقدر كبير من السيادة، حتى أنه تجاوز أعضائه، فيما يتعلق بالثوابت التي يتبناها، مما دفع التيارات اليمينية إلى استغلال تلك الحالة للثورة على هيمنة أوروبا الموحدة على حساب الدولة الوطنية، والتي ذابت سيادتها في خدمة حالة الاتحاد، إلا أن الخلل في هذه الحالة، تجلى في كون الاتحاد القاري تنازل عن سيادته طواعية لصالح الولايات المتحدة، باعتبارها القائد للكيان الأكبر هو المعسكر الغربي.

ربما يبقى تطبيق مفهوم السيادة، على الطريقة الأوروبية، غير مقبول أمميا، فالسيادة الأممية فهي بدورها مسألة إشكالية، فهناك فرق بين السيادة الإجرائية، مثل منع تسييس دخول الوفود أو حماية البعثات الدبلوماسية، وهي إجراءات قد تحظى بقبول واسع، وبين السيادة السياسية التي تعني فرض قرارات ملزمة على الدول الكبرى، وهي النقطة التي ستواجه مقاومة شديدة باعتبارها مساسًا بمبدأ السيادة الوطنية التقليدية.

ولكن الأمر يبقى في حاجة إلى إعادة هيكلة النهج الذي تتخذ به القرارات، بدءً من الفيتو، وإمكانية استخدامه، مرورا بصلاحيات الأمين العام، ومدى الالتزام بمعايير العدالة الدولية، والتمثيل الجغرافي، وتأثير القوى الإقليمية المؤثرة في مختلف مناطق العالم، وهي أمور جوهرية لابد من الالتفات إليها، حتى تستعيد الأمم المتحدة مصداقيتها، وتحتفظ بمكانتها التي باتت تتلاشى تدريجيا، وهو ما يدفعنا إلى الحديث عن مسار آخر، وهو بزوغ منظمات جديدة، على رأسها بريكس، باتت أكثر تمثيلا للدول المهمشة أمميا، وأصبحت بمثابة منافس قوى للأمم المتحدة، كمصادر للشرعية الدولية، فنجد أن مثل هذه المنظمات باتت أكثر إنصافا لغزة، على سبيل المثال، أكثر من الأمم المتحدة، التي أعاقها الفيتو الأمريكي عن تمرير قرار بوقف إطلاق النار، عدة مرات.

الحالة الدولية في اللحظة الراهنة، في ظل العجز الأممي، أضفت قدرا من الشرعية لمنافسيها، ربما بدت بوضوح في الزخم التي باتت تحظى به القمم التي تنظمها المنظمات الأخرى، وآحدثها بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، وهو ما أزعج واشنطن نفسها، خاصة عندما عقدت قمة روسية صينية كورية شمالية على هامش قمة شنغهاي، مما دفع الرئيس ترامب إلى وصفها بـ"المؤامرة".

وهنا يمكننا القول بأن إصلاح الأمم المتحدة لم يعد رفاهية فكرية أو ترفًا سياسيًا، بل صار شرطًا وجوديًا لبقاء المنظمة ذاتها، فإما أن تستعيد المؤسسة الأممية دورها عبر إعادة هيكلة آليات القرار وضمان قدر من السيادة الإجرائية يحمي نزاهتها، دون المساس بالسيادة الوطنية للدول، أو أن تترك الساحة لمنافسين جدد يملئون فراغ الشرعية الدولية وفق قواعد أكثر مرونة وأقرب إلى واقع الشعوب، وبين خيار الإصلاح وخيار التآكل، يبقى مستقبل النظام الدولي معلقًا على قدرة الأمم المتحدة على التكيف مع زمن غزة وأوكرانيا وصعود القوى الصاعدة، حيث لم يعد مقبولًا أن تبقى رهينة فيتو أو أسرًا لمعادلات ما بعد الحرب العالمية الثانية.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب