الفوضى تنهار في خضمها المؤسسات، وتتعطل الأعمال، وتقوض صلاحيات الأجهزة، التي تحمي مقدرات الشعوب، ويصبح الصراع مباحًا، والنزاع بكل صوره متاحًا، والانقسامات نتاج طبيعي للتفكك، والتدخلات الخارجية أمرًا حتميًا؛ حينئذ لا تسأل عن أمان، أو استقرار، أو اقتصاد، أو تعليم، أو خدمات رعاية بكل أنماطها، وشاهد بأمِّ عينيك الدمار، وهلاك الحرث، والنسل، ونقص حادٍّ في كل شيء يرد على خاطرك، أو لا يرد؛ فعبر غياب النظام تعيش في حالة يُرثى لها بشكل مستدام.
حالة الفوضى التي تنتاب الأوطان تصب قطعًا في مصلحة من ساعدوا في إحداثها؛ فهي تخدم بصورة مباشرة ما ورد في أجنداتهم، وما سطّرته مخططاتهم، وما رسمته خيالاتهم، وعند حدوثها تشاهد الدعم اللامتناهي لأطراف، دون أخرى؛ كي تساعد في إسقاط وإفشال كل ما من شأنه ينظم أمور الحياة؛ فالارتباك، والعشوائية من الغايات الرئيسة، التي تستهدفها فوضى عزّزتها جهات بعينها، سواءً أكانت دول، أم مؤسسات كبرى، أم حركات مموّلة، أم جماعات، لها أجندة مطامع معلومة.
هناك من تحدث عن الفوضى، وادّعى كذبًا، وافتراءً، وإفكًا أنها خلاّقة؛ فالصواب أنها مدمرة، أو غير خلاّقة، أو غير منشئة، أو مقوّضة، أو حارقة؛ حيث تحدث اضطرابات، من شأنها أن توقف مسارات النهضة، وتتنامى في خضمها مستويات الفُرقة بين المجتمع، وتبدأ مرحلة جديدة، ضبابية، جرّاء هذه الكارثة، التي تضير بالمجتمعات لعقود من الزمن؛ فلا مجال لرؤى موحدة لصورة المستقبل، ولا أمل في التوّحد تحت راية واحدة، تتكاتف فيها الجهود المخلصة، من أجل الإعمار، ولا طموح يتوالد لدى أبناء الوطن في ظل استباحة فجّة لكافة الحرمات، وضياع للحقوق، وضعف تجاه الاعتراف بالواجبات.
في ثياب الفوضى، لا مكان للعدالة الناجزة، ولا اعتراف بماهية المساواة، ولا تقبل لفكرة التكافل، ولا حياة كريمة للضعفاء، ناهيك عن آثار، تكمن صراحة في تفكّك الدولة، ومؤسساتها، وتشرذم أبناء الوطن حول القضايا الجامعة؛ فلا يجد العدو ما يُرْدعه، ولا يجد المغرض ما يوقف مخططاته، وهنا تتنامى فكرة هجران الأوطان، التي خرّبتها الفوضى، وقضت على بنيتها، وأكلت ثروتها، فصارت أطلالًا، فُقد في أرجائها الأمان على النفس، والولد؛ ومن ثم تُنهب الأموال، وتصدر للخارج، ولا تجد العقول مكانًا، ولا مناخًا، تعمل في واحته.
في ظلّ الفوضى غير الخلاّقة، لا أمل في المستقبل، الذي قد يغادر العقول، ولا تتفاعل مع وجدانيات، تبحث عن الكفاف من أجل محاولة البقاء على قيد الحياة في ضوء دمار، قد طال البشر، والحجر على السَّواء، وهذا بالطبع يخدم أصحاب المشاريع التوسعية، الذين ينتهزون الفرصة، ويسارعون في الانقضاض على مساحات الأرض، التي لا يحميها أبناؤها؛ لفقدان المقدرة على التماسك، والتضافر من أجل الدفاع عن العرض، الذي يمثله تراب، لا يُقدّر بثمن.
البحث عن المصالح الخاصة شعار، يحمله الجميع في ظل الفوضى غير الخلاّقة؛ فلا إجماع على مصالح عُلْيا؛ لكن هناك انشغال تجاه السيطرة على الموارد، أو الإمساك بمقاليد الحكم، أو أخذ أكبر قدر من الغنائم، أو الأخذ بالثأر من فئات، أو طوائف، أو رموز بعينها، وهذا في مجمله يخدم العدو، ويسّهل عليه المهمة، ويفتح له الباب؛ ليدخل آمنًا، مطمئنًا، لا يحسب للشعوب المنهكة حسابًا، ولا يزن لقواها اعتبارًا؛ فيأخذ ما يشاء، ويفعل ما يريد، دون أن يُلقى بالًا بكرامة المجتمعات، ولا مؤسساتها المهْدمة بيد أبنائها الأشاوس.
آثار الفوضى الهدّامة ندركها نحن المصريين؛ ومن ثم ندافع عن مقدراتنا، ونصطف خلف مؤسساتنا، وندعم، ونفوّض قيادتنا السياسية الحكيمة في اتخاذ الإجراءات، والتدابير، التي تحمي أمننا القومي، ولا نسمح لأحد أن يتدخل في شئوننا، ولا نترك ساحة تتموّج في خضمها شائعات المغرضين، ونتضافر من أجل غلق كافة الأبواب، التي تتسبب في إحداث فتن، أو تضعف همتنا، وعزيمتنا، وإرادتنا؛ فلدينا غايات سامية، نحيا من أجلها.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.