نجيب محفوظ.. رحلة الخلود بين الحياة والموت

السبت، 30 أغسطس 2025 08:00 م
نجيب محفوظ.. رحلة الخلود بين الحياة والموت الأديب العالمي نجيب محفوظ

محمد عبد الرحمن

في مستشفى الشرطة بكورنيش العجوزة، وعلى بُعد خطوات من منزله الذي عاش فيه سنواته الأخيرة، أسلم الأديب العالمي نجيب محفوظ روحه، ليعلن بذلك رحيل قامة أدبية خالدة اختارتها الذاكرة الإنسانية لتبقى في خانة العظماء، رحل الجسد، وغادرت الروح إلى عالم المجهول، لكن نجيب محفوظ ظلّ بيننا بأعماله، رمزًا روائيًا لا يُضاهى في الأدب العربي. ويكفي أنه الأديب العربي الوحيد الذي حصد جائزة نوبل في الأدب، وظلّ متفرّدًا بها أكثر من 37 عامًا دون أن يبلُغها غيره.

صبيحة الثلاثين من أغسطس 2006، تمسّك محبوه وتلامذته بأمل أن يتجاوز أزمته الصحية الأخيرة، أن يهزم الزمن ويمنحهم بضع سنوات أخرى من حضوره. لكن الموت كتب الكلمة الأخيرة، وأغلق آخر صفحات الحكاية الطويلة. سلّم الروح إلى السماء، وانطلق في رحلة لا يرويها هذه المرة الحكّاء الأعظم في تاريخ الأدب العربي. وهنا يطلّ السؤال: هل سيخرج نجيب محفوظ آخر ليحكي قاهرة القرن الحادي والعشرين، قاهرة "الذكاء الاصطناعي" و"عصر المابعديات" بعد أن حكى لنا بنفسه "قاهرة القرن العشرين"، ويكتب لنا عن عصر "الفتوات"؟

في قصته "السماء السابعة" من مجموعته "الحب فوق هضبة الهرم"، قدّم محفوظ عالمًا قصصيًا متماسكًا يبدأ من "المهد" وينتهي بـ"العودة"، في سردية فلسفية لا تخلو من الرمزية، تحاكي فكرة إعادة ميلاد الروح بعد الموت، في صورة تقارب معتقد التناسخ الهندوسي.

غير أن محفوظ ربما لم يكن منشغلًا بالفلسفة الشرقية بقدر انشغاله بأسئلة الموت والخلود التي شغلت مشروعه الأدبي. فتارة استلهم فكرة السعي إلى الخلود من ملحمة جلجامش، مثلما فعل "جلال صاحب الجلالة" في الحرافيش، الذي ظل يبحث عن عشبة الحياة ليكتب لنفسه الخلود، قبل أن ينتهي بموته المهين مسمومًا من عشيقته في حوض للبهائم، في مفارقة رمزية أراد منها محفوظ أن يؤكد على عبثية فكرة الخلود، وأن الموت قدر لا مفر منه مهما بلغ سلطان الإنسان أو طموحه.

وتارة أخرى صاغ الفكرة في إطار صوفي عبر أصداء السيرة الذاتية، حين صوّر الشيخ عبد ربه التائه يتمنى طول العمر، ثم يلتقي بمتسول يذكّره بأن طول العمر بلا معنى إن لم يمتلئ بالحب والعمل؛ في إشارة رمزية إلى أن المعنى الحقيقي للخلود لا يتحقق بطول الحياة، بل ربما بما يتركه الإنسان من أثر في قلوب الآخرين وسيرته بينهم، وهو ما تركه نجيب محفوظ نفسه من أثر عظيم بأدبه في نفوس القراء، وفي نفوس تلاميذه وأصدقائه، وجميع من اقترب من عالم عميد الرواية العربية.

كان نجيب محفوظ عاشقًا للحياة كما لو أنه سيخلد فيها، منظمًا في طقوس يومه وكتابته، صادقًا مع نفسه في انضباطه، ومع ذلك لم يتمنَّ طول البقاء، ولم يتوقع أن يعيش حتى الرابعة والتسعين. فقد لخّص فلسفته قائلًا: "أقمت حياتي في الدنيا على أساس الحب؛ حب العمل، وحب الناس، وحب الحياة، وأخيرًا حب الموت." هكذا لم يكن الموت عنده فناءً، بل قَبولًا هادئًا لنهاية الرحلة، إذ لا يعيق الخوف من الموت سوى القدرة على عيش الحياة بحق.

رحل نجيب محفوظ قبل تسعة عشر عامًا، لكنه سيظل حاضرًا لعقود وقرون قادمة، حاضرًا بسيرته وأعماله التي منحت اسمه خلودًا أبديًا، وكتبت له البقاء طويلًا في ذاكرة الأدب والإنسانية.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة