مها عبد القادر

التطلع من نافذة الثانوية إلى آفاق الجامعة

الإثنين، 25 أغسطس 2025 03:39 ص


تمثل المرحلة الثانوية بالنسبة للطالب لحظة فاصلة بين العالم المحدود للطفولة والشباب المبكر وبين الرحابة الواسعة للجامعة بما تحمله من تحديات وآفاق، إنها أشبه بنافذة يطل منها الطالب على المستقبل؛ يرى من خلالها بعض الملامح، ويترقب ما هو آت، ويتأرجح بين القلق المشروع والحلم الجميل، فالثانوية تشمل سنوات دراسية لإتقان المناهج وما تتضمنه من معارف ومعلومات ومهارات والنجاح في الامتحانات، وكذلك هي مختبر أولي لصناعة الهوية، وصقل الطموح، وبناء الاستعداد المعرفي والوجداني للانتقال إلى عوالم أرحب من التفكير والبحث والإبداع.
ولابد من فهم قيمة المرحلة الثانوية في كونها وقتًا حاسمًا في بلورة وعي الذات، ففيها ينتقل الطالب من التلقي البسيط إلى التساؤل والنقد، ومن الاعتماد على المعلم وحده إلى الرغبة في الاستقلالية الفكرية، وفي هذه السنوات تتشكل أولى بوادر الهوية الفردية، حيث يبدأ الطالب في مساءلة اختياراته، ويصوغ تصوره عن ذاته في علاقتها بالآخرين والمجتمع، ولهذا فإن الثانوية إعداد أكاديمي وتمرين على الوعي والنضج والمسؤولية.
ولطبيعة المرحلة يعيش طالب الثانوية توترًا معرفيًا ونفسيًا بين ما يفرضه النظام المدرسي من حدود المناهج واللوائح، وما يحلم به من فضاء رحب للحرية والبحث، وفي هذا التوتر تنشأ حالة من الازدواجية: فهو من جهة يشعر أنه قد بلغ عتبة الرشد، ومن جهة أخرى ما يزال محكومًا بقوانين المدرسة وأطرها الصارمة، ومن ثم فهذه المسافة بين المحدود واللامحدود هي التي تمنح الثانوية قيمتها، فتجعل الطالب متشوقًا إلى الانتقال لعالم الجامعة الذي يعده بالتحرر الفكري والانفتاح على المعارف المتعددة.
وحين يعبر الطالب عتبة الجامعة، فإنه يدخل مؤسسة تعليمية وينتقل من خلالها إلى أفق حضاري ومعرفي تتقاطع فيه التخصصات، وتلتقي فيه الرؤى، وتتجلى فيه معاني الحرية الأكاديمية، فالجامعة مكانًا لتلقي العلوم ومختبر لإنتاج المعرفة، وفضاء للحوار، ومنبر للتنوع، وبالتالي فإن الطالب الذي تعلم في الثانوية كيف يطرح الأسئلة ويفكر نقديًا، يجد في الجامعة المجال الأوسع لترجمة تلك المهارات إلى بحوث ومشاريع وابتكارات.
ويظل الامتحان في الثانوية معيارًا رئيسًا للتقويم؛ بينما في الجامعة يتحول المعيار إلى البحث والاكتشاف والقدرة على النقد والتحليل، وهذا التحول الجوهري يعكس النقلة من عقلية التلقي والحفظ إلى عقلية الإبداع والإنتاج، وهنا تظهر أهمية إعداد الطالب منذ الثانوية لهذه النقلة، حتى لا يجد نفسه غريبًا في بيئة الجامعة، فالتربية بالمرحلة الثانوية التي تغرس في الطالب حب السؤال، والقدرة على التحليل، وروح المبادرة، إنما تفتح أمامه الطريق لنجاح أكاديمي أعمق في الجامعة.
وتعد الجامعة فضاء لبناء الهوية الإنسانية، فالطالب الذي يدخل الجامعة يواجه عوالم متعددة من الأفكار والقيم والثقافات، فيتعلم كيف يوازن بين هويته الخاصة وانفتاحه على الآخر، وهذا البعد التربوي هو امتداد طبيعي لما بدأ في الثانوية، حيث يطلب من الطالب أن يصوغ شخصيته القيمية والأخلاقية، ليجد في الجامعة المجال الرحب لتجسيدها، فالطالب الجامعي عقلًا مفكرًا وضمير حي، وفاعل اجتماعي يشارك في صناعة الحاضر والمستقبل.
إن ربط الثانوية بالجامعة هو ربط بين الإعداد والتأهيل من جهة، والتنمية والنهضة من جهة أخرى، فكل طالب يدخل الجامعة محملًا بما تعلمه في سنوات الثانوية، ليصبح جزءًا من القوة البشرية التي تقود مجتمعاتها نحو المستقبل؛ لذلك فالجامعة هي بوابة التنمية، ومفتاح هذه البوابة المرحلة الثانوية، فإذا كانت الثانوية قادرة على إعداد طلاب متسائلين، ناقدين، محبين للعلم، فإن الجامعة بدورها ستكون أكثر قدرة على تحويلهم إلى علماء، ومبدعين، ومهنيين أكفاء.
ولابد أن يُنظر إلى الثانوية والجامعة كمسار متكامل تتكامل فيهما الأدوار، فالثانوية تمنح الطالب أدوات أولية للتفكير، وتربي فيه الانضباط والمسؤولية، بينما تمنحه الجامعة فضاء التطبيق والابتكار، وأي خلل في الثانوية ينعكس على الجامعة، وأي إبداع في الجامعة هو ثمرة إعداد جيد في الثانوية، ولهذا فإن السياسات التعليمية الرشيدة تسعى دائمًا إلى إحداث توازن بين المرحلتين، لتشكيل جيل قادر على الاستمرار في بناء مجتمعه.
وفي خضم التطلع إلى آفاق الجامعة، لا يمكن إغفال البعد القيمي والأخلاقي، فالعلم بلا قيم يتحول إلى أداة هدم، بينما العلم المقرون بالأخلاق يصبح وسيلة بناء ونهضة، وهنا تبرز مسؤولية الثانوية والجامعة معًا في غرس قيم الصدق، والعدل، والإتقان، والحرية المسؤولة، بحيث ينمو الطالب متوازنًا بين العقل والضمير، وإذا كانت الثانوية تعلم الطالب الانضباط والاحترام، فإن الجامعة تعلمه الحوار، والاختلاف الخلاق، والقدرة على التفكير النقدي المسؤول.
وحين يطل الطالب من نافذة الثانوية نحو الجامعة، فإنه في الحقيقة يطل على مستقبل أمته، فالمجتمع ينهض بقدر ما يمتلك من طاقات شبابية مؤهلة، قادرة على تحويل المعرفة إلى قوة إنتاجية، ومن هنا يصبح التطلع نحو الجامعة ليس حلم فردي بالنجاح الأكاديمي أو الوظيفة، ولكن هو رهان جماعي على النهضة، فكل طالب جامعي هو مشروع إنساني وحضاري يضيف إلى رصيد وطنه وأمته.
ونؤكد أن الانتقال من الثانوية إلى الجامعة هو عبور بين مرحلة التلقي ومرحلة الإبداع، بين حدود المناهج وأفق الحرية الأكاديمية، بين بدايات الهوية ونضجها، وتكمن مسؤوليتنا التربوية في جعل الثانوية نافذة مضيئة، يرى منها الطالب مستقبله بوضوح، ويتهيأ للجامعة بعقل مستعد وروح منفتحة، لبداية رحلة جديدة في البحث والمعرفة والإنسانية، وبذلك يصبح التطلع من نافذة الثانوية إلى آفاق الجامعة رحلة تربوية وحضارية، تخص الأمة جمعاء، لأنها تحدد طبيعة المستقبل الذي نصنعه بأيدينا وعقولنا وقيمنا.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب