قضية الاستشراق، قديمة وسيطرت على العقول وصارت مهمة فكرية يكتنفها الكثير من اللغط، والتعامل معها بحساسية مفرطة، وهناك كتاب شهير يحمل اسم «الاستشراق» للمفكر إدوارد سعيد، يكاد يكون الأبرز الذى تناول هذه القضية، وتفصيلاتها؛ وتعريف «الاستشراق» ببساطة، هو تيار فكرى يهتم بشعوب الشرق، ويبحث فى عقيدتهم وثقافتهم ولغاتهم وتاريخهم وحضارتهم، ويعتنى بدراستها باستفاضة؛ وكان المستشرقون القدماء يروجون لأفكارهم عبر كتب ومراجع، ثم ومع ظهور الإذاعة والتليفزيون، حولوها لمنابر قادرة على اقتحام كل بيت، وبث أفكارهم.
التطور زاد أثره مع ثورة التكنولوجيا، والإعلام الإلكترونى، ثم السوشيال ميديا، ومع كل تقدم فى وسيلة من وسائل التواصل كان الاستشراق حاضرا وبقوة، حتى وصلنا إلى الذكاء الاصطناعى، والذى يمثل سرعة نموه وانتشاره ثورة كبرى فى تاريخ التقنية الحديثة، أسهمت فى إعادة تعريف علاقة الإنسان بالتقنية، والقدرة على التفاعل واتخاذ قرارات معقدة فى ميادين مختلفة مثل الطب والتعليم والاقتصاد وحتى الحروب.
ورغم هذه الثورة التقنية الكبرى، وأهميتها وجدواها فى كل المجالات، وضرورة مواكبتها والتحذير من التخلف عن ركبها، فإن المخاوف الكبيرة للآثار السلبية وأضرارها على المجتمعات الشرقية على وجه الخصوص، والمتمثلة فى الأفكار التى تتقاطع مع المنظومة الدينية والأخلاقية للمجتمعات الشرقية، تظل حاضرة فى الصورة؛ وبنظرة عادية على نماذج الذكاء الاصطناعى التوليدى، على سبيل المثال، تكتشف أنها ليست كيانات محايدة تنتج المعرفة من الفراغ، بل هى نتاج بيئات ثقافية ورؤى سياسية وبنى معرفية طورت فيها.
ولنضرب المثال بـ«شات جى بى تى»، الأشهر من بين برامج الذكاء الاصطناعى، فقد تطور فى بيئة مختلفة، ومحكومة بمعايير الشركات الأمريكية وقيمها، ويتجنب الخوض فى موضوعات حساسة أو مثيرة للجدل، وهى سياسات تحكم استخداماته.
ورغم التأكيد من الشركات المطورة لنماذج الذكاء الاصطناعى، بأنها تبذل جهودا كبيرة للحد من التحيزات، فإن هذه التأكيدات مجرد تصريحات تقلل من مخاوف المجتمعات الشرقية برمتها فى ظل حالة القلق الكثيفة التى تسيطر على هذه المجتمعات من عودة «الاستشراق» فى ثوبه «الاصطناعى» الجديد والخطير!
«شات جى بى تى»، وباعتباره وليد بيئة أمريكية، يلاحظ كل من يتعاطى معه وجود ميل شديد إلى إعادة إنتاج سرديات مألوفة فى الغرب، خاصة تلك التى تحصر الإسلام فى قضايا العنف أو حقوق المرأة أو الحريات، حتى وإن غُلفت هذه الأطروحات بخطاب معتدل يخضع للتوازنات السياسية والدينية والثقافية السائدة، وعند طرح سؤال يختص بهذه النماذج، فإن الإجابات تبدو محايدة فى ظاهرها، لكنها فى العمق تعكس ميراثا معرفيا مشبعا بصور نمطية وأهداف خبيثة!
«الاستشراق الاصطناعى» هو امتداد حديث ومبتكر لـ«الاستشراق القديم»، والاختلاف فى وسائل الانتشار، فبينما كان الاعتماد قديما على كتب الرحالة ومقالات الباحثين، انتقل إلى الخوارزميات، ومحركات البحث، وأنظمة التوصية، وتبقى أن إنتاج الصور النمطية التى طالما رسخها المستشرقون عن الإسلام والعرب، ثابتة فى قلب «الذكاء الاصطناعى»، والقائمة على تصوير الإسلام من منظور ضيق، يربطه بالعنف والتطرف، مع قولبة الهوية العربية وتعريفها ضمن سياقات ركوب الإبل والرعى والنفط والصراعات والتقاليد الجامدة البعيدة عن الحداثة، وغير الفاعلة فى المشهد العالمى المعاصر.
مخاطر الاستشراق الاصطناعى، كثيرة وعميقة ومتعددة، لاعتماده على ثورة الذكاء الاصطناعى التوليدى، وامتلاكه القدرة الكبيرة على إنتاج نصوص وصور جديدة بناءً على بيانات ضخمة تم تدريبه عليها، ومخزنة فى خوارزميات تكرر التحيزات القديمة، الأمر الذى يسهم فى استمرار روايات الغرب المشوهة لوجه الشرق.
الشاهد من هذا السرد المبسط، أن «الاستشراق الاصطناعى» ليس مصطلحا قياسيا بحد ذاته، ولكنه يشير إلى الاستشراق الذى أُنتج وتشكل بواسطة أنظمة الذكاء الاصطناعى الحديثة، يُعيد إنتاج التصورات والصور النمطية الاستشراقية التقليدية من خلال معالجتها للنصوص والبيانات الموجودة، ما يؤدى إلى تكرار التحيزات الموجودة بدلا من كسرها، خاصة إذا كان الاستخدام يفتقر إلى التوجيه النقدى، ما يرسخ صورة ذهنية مغلوطة وخطيرة!
بجانب - وهو الأخطر - أن هذا «الاستشراق الاصطناعى» يسهم أيضا فى تشويه الحقائق التاريخية، والجغرافية للمنطقة العربية، وتسييسها، والدليل أنه عند طرح سؤال عن «غزة» على الذكاء الاصطناعى، لن تجد إجابات شافية، أو أن إسرائيل تدير حرب إبادة شاملة تقضى على البشر والحجر!
لذلك فإن هناك حاجة ماسة للتأكيد الدائم والمستمر على أن الذكاء الاصطناعى أداة يجب استخدامها بوعى لتجاوز التحيزات والتشوهات الموجودة بدلا من تكرارها، فى استجلاب المعلومة، مع التأكيد على أنها تقنية عظيمة الأثر للاستخدام فى القطاعات المختلفة بهدف التطوير والإنجاز!