حازم حسين

عار إسرائيل والعالم فى غزة.. من المجاعة إلى بناء الشرعية وتقويض خيارات نتنياهو الحارقة

الأحد، 24 أغسطس 2025 02:00 م


ما من شىء كان يوحى بانتكاسة النازية؛ حتى انقضّ عليها الجنرال الأبيض فى صقيع روسيا. جمهرة الحلفاء أنجزت الشطر الأسهل من المهمة؛ أمَّا أكبرها فقد أنجزه الثلج.

وفى غزة، تتكرر القصة بالمقلوب؛ إذ يضرب الصهاينة حصارَ الجوع على الغزيين الأبرياء، فيُطوّقون أنفسهم بالخزى والعار والإدانة التى لا حد لها. مهما انفلتت القوَّةُ فإنَّ لها حدودًا، ويُمكن أن يغلبها الضعفُ من دون حَولٍ ولا طَولٍ من الضعفاء

طُمِرَت القصّةُ الحقيقية لشهورٍ تحت فيضٍ من الأكاذيب والتلفيقات؛ لكنَّ الزاحفين على بطونهم الخاوية أصابوا ما لم تُصِبه البنادق، ووضعوا المُحتلَّ أمام المسؤولية التى ظلَّ يتهرَّب منها طويلاً، وبلا أىِّ هامش للمُراوغة، أو الاحتماء بسردية الاشتباك مع حماس وفصائل القطاع المؤَدلَجة.

تكشَّف للعالم أوّلاً أنها ليست حربًا عادلة على الإطلاق، ثمّ لم تعُد حربًا من الأساس، بل عملية إبادة منهجية مقصودة ومُخَطَّط لها، يحضرُ فيها المُسلَّحون كذريعةٍ لا أكثر، ويُقتَفَى أثرُ المدنيِّين العُزَّل دون مُبرّرٍ أو ضرورة.

النيّةُ كانت حاضرةً منذ البداية، وصرّح بها وزيرُ الدفاع الإسرائيلى السابق، يوآف جالانت، وتواترت على ألسنة كبار المسؤولين الحكوميين وأعضاء الائتلاف اليمينى الحاكم، بشأن تذخير المؤون بما يتناسب مع مفهومهم عن الحرب، باعتبارها صدامًا مع "حيوانات بشرية" كما قِيلَ نصًّا.

وعليه؛ فلم تكُن الصدمة كبيرةً عندما أُعلِنَ مُؤخّرًا أنَّ غزة دخلت طَورَ المجاعة، ويتوزَّع سُكّانها جميعًا على المستويات الثلاثة الأعلى فى مقياسٍ من خمس درجات، بين انعدام الأمن الغذائى الحاد ودخول نطاق العَوَز وسوء التغذية والموت جوعًا.

لم تَغِب الشواهدُ على هذا طوال شهورٍ، وتوافرت الصُّوَر والروايات المُزعجة؛ لكنَّ الجديد الوحيد أنَّ المسألة أُخرِجَت من إطار صراع الدعايات، واكتسبت موثوقيَّةَ الإسناد إلى جهةٍ دوليّةٍ ذات خبرة، ولا يُمكن الطعن فى تجرُّدها وفنيّة تقييماتها الموضوعية المُحايدة.

وبحسب تقرير التصنيف المرحلى المتكامل للأمن الغذائى IPC، المدعوم من الأُمَم المتحدة؛ فقد دخلت غزّة رسميًّا فى حالة المجاعة.

لم تعُد شكايةَ طفل أو عجوز، ولا سرديَّةً حماسية يمكن وَصْمُها بما تُوصَم به الحركة؛ بل مُراجعة علمية وقانونية من جهةٍ لم يَثبُت عليها الانحياز للمأساة الفلسطينية قطّ، وحتى حيادها كان مائلاً بدرجةٍ واضحة جهةَ الدولة العبرية؛ أقلّه بالصمت الرمادىِّ فى غير مواضعه، وبإرخاء ستار الاصطبار وتمرير الوقائع تحت ضغط الترهيب أو الابتزاز.

ما يمنحُ الرسالةَ قيمةً أكبر، ورمزيّةً مُضاعَفَة؛ لأنها أفلتت من كمينِ الترصُّد والتطويع، وغامرت بالصدام مع جهاتٍ بإمكانها إيذاء الفاعلين الأفراد، وليس تقويض المُؤسَّسات والكيانات المحميّة بالولاية الأُمَميّة فحسب.

ليس تفصيلاً عابرًا أن يُرَى ما يحدث مع المحكمة الجنائية الدولية، وآخره إقرار عقوبات بحقِّ أربعةٍ من القضاة والمُدَّعين؛ ثم يتجاسَرُ فريقٌ من العاملين فى الحقل الإنسانى على التصدِّى للامتحان الأخلاقى العسير فى غزة، والمًجاهَرة صراحةً وضِمنيًّا بإدانة الاحتلال فى الجُرم المشهود، وتلطيخ وجه تل أبيب بما يقع بكامله فى حيِّز جرائم الحرب والإبادة الجماعية.

يُذكِّر هذا بالمواقف الشجاعة من جانب مقرر الأمم المتحدة المعنىّ بالأراضى الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيزى، أو مفوض منظمة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" فيليب لازارينى، وطابور طويلٍ من مُتّقدى الضمير الآخذين فى التزايُد، وتحميل الاحتلال كُلفة جناياته، وتوصيفه بما يليق به فى مُدوّنة الانحطاط والتردّى من رُتبة الدولة إلى مستوى العصابات وقُطّاع الطرق.

ويزيد على الأثر السياسى، أنَّ الصورة لم تَعُد صالحةً للترميم من أىِّ وجه أو زاوية. ليس لأنَّ نتنياهو وحكومته يُوغلون فى أعمالهم الوحشية دون كابحٍ أو رادع، ويواجهون غضبةً داخلية تستنكف التضحية بما تبقّى من الرهائن إعلاءً لنزوة الحرب، وطمعًا فى سبك الأسطورة الشخصية لزعيم الليكود، على حساب سردية الدولة نفسها وأمانها على المدى البعيد.

إنما أيضًا؛ لأنَّ السقطة تتوزّع على كامل البيئة العِبريّة بالتساوى، ويتشاركها السياسىُّ مع المُقاتل وعامّة الشعب؛ لأنهم من طَرَفٍ خَفىٍّ يجنون مكاسب الهمجيّة الفادحة، ويصمتون على التوحُّش والقتل باسمِهم جميعًا، ولا يُبدون جديَّةً حقيقية فى تغيير الواقع الردىء بقوّة الديمقراطية التى يزعمونها لأنفسهم.

ويضيقُ الخناق عليهم من كلِّ الاتجاهات؛ ولو ظلَّت واشنطن على عهدها بالمساندة المفتوحة دون حدٍّ أو سقف. فالصورة التى كان مُعتادًا أن تنقسم بين شرقٍ وغرب بمَيل واضحٍ للأخير، أُعِيدَت القسمةُ فيها بما يأخذُ من الجُناة ويعطى للضحايا.

تستفيق دُوَلٌ وحكومات عِدّة على طريق الاعتراف بفلسطين، وتتَّسع دوائرُ الرفض والاستهجان، ويتَّخذان أبعادًا سياسية غير تقليدية فى بيئاتٍ بعيدة، ولطالما عُرِفَت بمَودّتها لإسرائيل، أو بانحيازها للسردية الصهيونية، ومثالها الأوضح استقالة وزير الخارجية الهولندى كاسبر فيلدكامب، لأنه بحسب مُسوّغات قراره قد صار عاجزًا عن اتخاذ خطواتٍ جادّة بشأن خروقات الاحتلال، لتتبعه استقالاتٌ أُخرى، ويتكشّف مقدار التفسّخ الذى تُحدثه نازيَّةُ الصهاينة فى نسيج العالم.

العبء كبيرٌ على الجميع، وفيما تتوافَرُ لبعض العواصم هوامش لاحتواء الارتدادات والتعاطى مع تأثيراتها، تشقُّ على غيرها المواءمة بين خطاب القِيَم والأُمثولة الحضارية، وما تُعاينه فى فلسطين التاريخية، وتغضُّ الطَّرْف عنه اضطرارًا، أو تتورَّط فى تمويله بالرمادية السياسية أو العلاقات الاقتصادية المشبوهة.

صار النقدُ صارخًا فى كلِّ البيئات، حتى الحلفاء الاستراتيجيين الراسخين تقليديًّا، ووصل الأمرُ إلى تصاعد الانتقادات من جهاتٍ لم يكُن مُتوقَّعًا أبدًا أن تأخذ مواقفَ جادَّة وصارمة من إسرائيل، بل يُوشِكُ الفوران المُتدافِعُ أن يحمِلَها لضفافٍ، ما كانت تتصوَّرُ هى ذاتُها أن تقترب منها فى أيَّة لحظةٍ أو تحت أىِّ ظَرف.

وأسوأ ما وضعت دولةُ الاحتلال نفسَها فيه، أو وضعَها نتنياهو بطموحه الخاص وغريزته الوحشيّة، أنها تقف اليومَ على مُفترَق طُرقٍ لا تملك خريطةً لاجتيازه، وتغيم البدائلُ فى عينيها إلى أن تتساوى الاحتمالات.

فالغايةُ الصريحة لديها أن تبيد غزَّة من الوجود؛ لكنَّ الحرب لم تحرزها فيما مَضَى، ولا يُحتَمَل أن تُنجِزَ بعد الانكشاف ما تعذَّر عليها فى فُسحة التضليل واصطناع المرويات.

أمَّا التوقُّف فيتهدَّدها بمآلاتٍ سياسية لا تريدها، ولا تستطيع التعامل معها من باقة خيارات اليمين الحالية، وليس بين طبقتها الحاكمة مَنْ يملكُ مهارات آباء المشروع ورموزه اليساريين، بكلِّ ما كان لديهم من طاقاتِ الخداع والتلوّن والرقص على كلِّ الحِبَال.

أُضيفَ الجوعُ إلى تركيبة الجيش الإسرائيلى. صار لواءً يُجاور "جفعاتى" وغيرَه من ألوية القتل الخَشِن. والتخلُّص منه الآن لا يُعرِّى هشاشةَ قُواها الصُّلبة فحسب؛ إنما يُقيم الحجَّة عليها باعترافٍ صريح منها بتسليح الطعام ومُقاتلة النساء والأطفال به.

فضلاً عن الأثر المعنوىِّ المُباشر فى إنعاش الأمل وتثبيت الغزِّيين، وتجديد عزم الفصائل وكتائبها المُسلَّحة على مُواصلة المغامرة التى تساوت أعباؤها بالنسبة للقطاع، وتتصوَّر أنها بصدد مرحلةٍ ثانية منها، ستنقلب تداعياتُها الثقيلة بكاملها على عاتق العدوِّ، ورُعاته المشتركين فى كُلفة التجويع والدم.

والحال؛ أنَّ إسرائيل لا تخشى عناصرَ القسَّام وشركاءهم من بقيّة المكوِّنات الحركيَّة المُنظَّمة فى غزّة؛ بقدر ما تتهيّب من صمود العامة ومَنْ يربطون أحجار البيوت المُتهدّمة على صناديق بطونهم الفارغة.

تتحسّبُ من الضعف لا القوَّة؛ لأنَّ الأخيرة تتساوَق مع سرديَّتها، وتُلبّى شروطَها للمواجهة التى اعتادتها منذ التأسيس، وهى أنها جيشٌ نبَتَت له دولة، ويعيش بها "على حدِّ السكين" دومًا، وفى جغرافيا سائلة وخرائط غير نهائية ولا مُحدَّدة المعالم أصلاً.

أمَّا الضعفاء؛ فإنهم مهزومون استباقًا على ميزان القوّة، ولا سبيل لهزيمتهم مرَّتين بالوسائل نفسها، وبمُجرَّد الالتحاق باللعبة من أرضيَّتهم المُتداعية، تخسر إسرائيل ما لديها من فائض البطش والترويع، ويربحون بإحراجها علنًا، وإدخالها فى تجربةٍ لا تحسنها ولا تقدر على أشراطها.

لهذا؛ أخشى ما تخشاه الدولةُ العبريةُ غالبًا أن تتنحَّى حماس ورفيقاتُها عن واجهة المشهد، وبإرادتها الطيِّعة خاصّة؛ لتُحِلَّ السلطة الوطنية بمرافقها بديلاً عنها.

وليس هذا عن بَرَمٍ من مُنازلةٍ صعبة بحسابات الأوزان والعضلات؛ ولكنْ لأنَّ مُنظَّمة التحرير تسيرُ تحت مظلَّةٍ عريضة من الشرعية والاعتراف الدولىِّ، ولديها وجاهة تمثيل القضية، والنيابة عن جمهورها الواسع فى الداخل والشتات.

وحتى ما يُؤخَذُ عليها من إجراءاتِ العقود الماضية؛ يُمكن القول إنّه صار من عناصر قوَّتها المَعنويّة الظاهرة، لأنها بالتخلِّى عن خيار المقاومة العنيفة أسقطت إمكانية الهزيمة الموضوعيَّة بالسلاح، أو عطّلت ماكينة الحرب عن تجسُّدها الثنائىِّ المُتكافئ نظريًّا، وبالهشاشة التى رشَّدت خطابَها الزاعق فى الستينيات، صارت بديلاً عقلانيًّا مُقنعًا للمنطقة والعالم، وتملك وصفةً يصحُّ وَضعها على الطاولة، ولا يتيسّر لعدوِّها أن يُزيحها جانبًا أو يدَّعى انعدام قابليّتها للإنفاذ.

كلُّ ما تنزعج منه تل أبيب فى نموذج حماس، يغيبُ بالاختيار أو الاضطرار عن المنظَّمة والسلطة الوطنية. البندقيّةُ لم تَعُد شرطًا وجوديًّا وحيدًا لديها، وفلسطين من النهر للبحر ليست ضمن أدبيّاتها الحالية على الإطلاق؛ بل إنها تقبلُ بدولةٍ غير مُتّصلة اتّصالاً طبيعيًّا، وربما منزوعة السلاح ومُهَندَسَة أمنيًّا بما يسدُّ الذرائع وينسف تعلُّلات المُتطرّفين والقوميِّين فى دولة الاحتلال.

أمَّا الاستثمار فى الانقسام وغياب الشريك؛ فيسقُطُ حَتمًا وحُكمًا بمُجرَّد اتّضاع الحماسيِّين وتسليمهم بالوصفة الالتئامية المُقتَرَحة، وتعود رام الله إلى الطاولة بكرسىٍّ وحيد، لا يُنازعه أحدٌ، ولا يتقاسَم معه الإطلالةَ على مسار التفاوض والتسوية السياسية.

الجوع يُستَخدَم ضد غزَّة لإنجاز أدوارٍ تُشبه الحصار والاستيطان فى الضفَّة الغربية. إنه لا يُرخِّصُ القتلَ ويُعمِّمُه على الجميع فحسب؛ بل يضغطُ على الرابطة الوطنية؛ ليعود الجوعى فرادى فى مجتمعٍ بدائىٍّ مُفَكَّك، لا ينشغل أحدُهم بهموم الآخر، وقد لا يتورَّع من الدَّوْس عليه بقدمٍ عاريةٍ للوصول إلى كيس طحين، بجانب ما يتفرَّع عن ذلك من سرقاتٍ وتجارةٍ سوداء تُضيف لثروات أغنياء الحرب، ومن بناء مَعازل مُحصَّنة بالجماجم والعظام الناتئة، لا تجعلهم شركاء فى وطنٍ وقضيّة؛ بل باحثين عن النجاة الفردية بأىِّ ثمن، وتحت كل الظروف؛ الجيد منها قبل الردىء.

أصبح التجويع بديلاً من الردع بالنار والبارود؛ لأنه يُؤكِّدُ للمنكوبين أنَّ الكُلفة لا تنحصر فى بيتٍ أو جنازة، بل سيظلُّ مقضيًّا عليهم بسداد الفواتير بأسوأ الصور المُمكِنة، وبما يجعلها مفتوحةً من دون نهاياتٍ مُريحة؛ ولو كانت الموتَ المُؤجَّل، ما يقترحُ عليهم ضِمنًا أن يسلكوا الطريق الأسهل؛ بالرحيل قسرًا أو طَوعًا.

وأهمية إلباس ما يراه العالمُ لَبوسَ الحقيقة القاطعة، كما فى تقرير المجاعة الأخير؛ أنه يُغلِقُ البابَ تمامًا على محاولات تزييف الوقائع الماثلة، أو تخليق سرديَّةٍ بديلة فى زحام الفوضى، وبعدما ينقشع غبار الحرب.

يُحرِّكُ الوعىَ الإنسانىَّ العام عن الاستاتيكية التى تجمَّد فيها خلال جولاتٍ شبيهة سالفة، ويرفعُ تكاليف الجريمة بما يُطوِّقُ احتمالات تكرارها بالكيفيّة ذاتها، والأهمّ أنه يُرَقّى المُعاناة وما تُعبِّر عنه من مَظلمةٍ صافية، ويُحرّرها من قُيود الاستقطاب والتنازُع الدعائى؛ لتصُبَّ لاحقًا فى نهر المُقاربات السياسية الباحثة عن تسويةٍ حقيقية، أو الساعية لتجنيب القضية مَزالقَ الاستتباع والخَنق من الداخل، بحيث لا تعودُ للخطاب الأُصولىِّ حاكميّةٌ فى بيئة الصراع، أو حُجّية على الجمهور العريض، مِمَّن سيلتحقون بقطار "اليوم التالى" المُقتَرَح، ويُسبغون عليه العِصمةَ والقداسة بقَدر ما تكبَّدوه على طريقه نزفًا وتجويعًا.

وبعيدًا من الأدبيَّات الراسخة بجمودٍ غريب فى الوعى الأُصولىِّ المُمانِع، ومع الإقرار بأنَّ المُقاومةَ بكل أشكالها حقٌّ أصيلٌ، وستظلُّ حَقًّا ما بَقِى الاحتلالُ وتقطَّعت سُبلُ التحرُّر؛ فالواقع أنَّ السلاح فَقَد معانيه ومُبرِّراته العقلانية المُقنعة، بمقدار ما عجز عن الردع والحماية، أو استجلب الخراب والخسائر الباهظة فى البشر والحجر.

ولا يُمكن الاكتفاء هُنا بالتعويض المعنوىِّ البائس، وأنَّ القضية ربحت فى الدعاية بمقدار ما نزفت من الدماء والأرواح؛ لأنَّ النتائج نفسها كانت مُمكِنةً بقَدرٍ من التعقُّل والإدارة الجماعيّة الرشيدة، ودون كلِّ تلك الفواقد الشنيعة فى الوجود ومُقدَّرات الحياة، كما لا يُمكن من أىِّ وجهٍ الارتضاء بمُعادلة أنَّ الواحدَ منهم بألفٍ مِنَّا، ولا أنَّ ما يُتَوَصَّلُ إليه بجهدٍ ومَشقَّةٍ فى سَنةٍ من العمل، يليقُ أن نسترخِصَ المُقامرةَ عليه بجبلٍ من الرُّكام والأشلاء، وعقودٍ من الضياع تحت سقف البحث عن التعافى وإعادة الإعمار؛ ناهيك عن مخاطر التهجير التى تعالَتْ فى الآونة الأخيرة، وما تزال مطروحةً بين باقة الأهداف السوداء.

والقَصدُ؛ أنَّ السلاح بعدما تحوَّل عبئًا على أصحابه وبيئاتهم، فى غزة كما فى لبنان، يتعيَّن عليه التنحِّى جانبًا فى الوقت الراهن، وبدون الاشتباك فى صخب الأيديولوجيا وحماوة التنظير عمّا أخطأ فيه أو أصاب.

فَلْيعتَبِر الأُصوليِّون أنه أنجز مهمَّته، وعليه أن يُخلِّى الطريق لبديلٍ أكثر كفاءة، وَلْيُقِرّ المُعترضون، أمام حقائق الواقع الداهمة، بأنَّ ما جرى قد جرى بالفعل، والبحثُ اليومَ عن الإنقاذ لا تبادُل الاتهامات.

عند تلك النقطة فقط؛ يُمكن أن تنزل حماس عن الشجرة لصالح فلسطين، وأن ترتَقِىَ الأخيرةُ بوُجوهها الشرعيَّةِ مُرتَقَى القيادة تحت سقف الجماعيَّة والمصالح العامَّة الصافية، ويُصَار إلى هيكلة الأجندة الوطنية ومشروعها النضالىِّ وفقَ المُقتضيات، وفى ضوء الثوابت العُليا الراسخة، وبما يُجَفّف رواسب الانقسام ونزوة الطوفان بأقصى قدرٍ مُمكن، ولا يُبدِّدُ ما تحقَّق بتضحيات الأبرياء؛ ولو أُرغِموا عليها. كما لا ينقطع عن مسيرة اليقظة الدولية؛ ولو كانت ساخنةً بحُكم الظَّرف؛ لأنه عند حدٍّ مُعَيَّن قد يخفُت البريق وتتسرَّب الحرارةُ من الإناء.

ظلَّ نتنياهو منذ الطوفان مُغرَمًا بآلية "التفاوض تحت النار"، وكان يُرسِلُ وفودَه إلى الدوحة وغيرها، فيما يُصَعّدُ جنودُه عدوانَهم على القطاع.
والظاهرُ اليومَ أنّه يعتمدُ ذاتَ السلوك بحذافيره، بين التداول فى بنود الصفقة المُقتَرَحة مُؤخَّرًا بشأن هُدنةٍ لستّين يومًا، والاستعداد لإطلاق عملية "عربات جدعون 2" بعد تصويت المجلس الوزارى المُصَغّر/ الكابينت على خطَّة احتلال غزّة.

إنما فى الواقع، تختلف التجربةُ الحاليّةُ عن سوابقها؛ لتُلَخِّص التعرّى والانكشاف، وتُعبِّر عن الضعف بأكثر مِمَّا عن القوة. إذ لا يَعرِفُ إلى أيَّة وُجهةٍ يُمكن أن تسير الحرب، وليس جاهزًا لإنهائها والدخول فى "يَومٍ تالٍ" لا يفرض شروطَه الكاملة.

وإذا كان البيتُ الأبيض يُجاريه حتى الساعة؛ فالمعارضة ومعها الشارع يطلبون الرهائن، وحُلفاء اليمين التوراتىّ يتطلَّعون للمستحيل، مُتجسِّدًا فى انتزاع الأرض وكَنس معا عليها من بشر، والعجوز الذى عاش عقودَه الماضية يعتمرُ تاج "الملك اليهودىِّ"، ويُمَنّى نفسَه بأسطورةٍ تَبقَى فى سيرة الدولة كنَصٍّ مُلحَقٍ على التلمود وتُرّهاته، يبدو فى أضعف حالاته على الإطلاق، وعاجزًا عن الإقدام أو الإحجام، وعن المناورة بينهما، وفى كلِّ اختيارٍ تبعات لا قِبَل له بها.

وأردأ تعاطٍ مع تلك الحالة، ما تحتكم فيه الفصائل إلى أجندة العدوِّ؛ أكان بمُناطحته فى التشدُّد سابقًا، أم بالمُلايَنَة الصامتة الآنَ، والاكتفاء بالرهان على الإحراج مع تكثُّف الضغوط الدولية.

البديلُ الوطنىُّ غائب تمامًا؛ ما يجعلُ التسويةَ العالقة محكومةً دومًا بإرادة العدوِّ وإملاءاته؛ فيما الواجب يقتضى الاشتغال على صياغة الشقِّ الفلسطينى من الحكاية، وإكماله وتأهيله؛ ليكون صالحًا للوَضع على طاولة العالم: الآن بالتزامن مع المفاوضات وتهديدات الاحتلال الكامل، وغدًا فى سياق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة وما بعدها من توالى الجهود والاعترافات.

ينبغى توحيدُ الرأس، وعدم فَصل المسارات فى غزَّة والضفة عن بعضها، والدفع بكلِّ الطُّرُق المُمكِنَة لأن تكون توافُقات "اليوم التالى" إجماعيَّةً، وطالعةً من عباءة مُنظَّمة التحرير وصِفَتِها التمثيلية، الثابتة بالقانون والاعترافات الدولية.

المجاعةُ جريمةٌ تُضَاف لسِجلٍّ إسرائيلىٍّ طويل، وقد كانت وما تزال لديها وفرة فى التوحُّش والإجرام وأعمال الإبادة والتطهير؛ لكنها كانت تفلت فى كلِّ مرّة من التبعات؛ بعدما تبرُد الساحة ويستقر غبار المعارك.

ويجب ألَّا يتكرر الإهدارُ اليومَ، ولا أن تُترَكَ الثغرةُ نفسُها مفتوحةً للانفلات منها.

يتعيَّنُ استثمار المأساة الإنسانية على كلِّ الصُّوَر؛ بغرض الإنقاذ المُعجَّل عبر إدخال المساعدات بكثافة، وإقامة الحجَّة على الاحتلال بعد توثيق خطاياه، وأن يكون انتشال المنكوبين من وَهدة التجويع مدخلاً لانتشال القضية ذاتِها من ضياعها الراهن.

سيربح الفلسطينيون باستثمار الضعف بعدما خذلتهم القوة؛ أو على الأقل سيكون مأمولاً أو مُمكِنًا تطويق النازيِّين الصهاينة، وتعطيل مُخطَّطاتهم الإلغائية الصاخبة.

إنقاذ الناس يحتاج لمزيدٍ من الشاحنات التى ستُدَفِّعها السياسةُ وضغوطُها، وإنقاذ فلسطين فى المدى المنظور أيضًا لا سبيلَ له إلا ذاك السبيل، بالسياسة وحدها، وتحت مظلَّة الإجماع والشرعيّة الوطنية التى اختصمتها حماس طويلاً، ويبدو اليومَ أنها أضحت طوقَ نجاتِها الوحيد.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب