نواصل قراء كتاب "قصة السينما في مصر" لـ الناقد سعد الدين توفيق، ويعد الكتاب من أوائل المحاولات الجادّة لكتابة تاريخ للسينما المصرية في كتاب واحد، ولذلك يُستشهد به كثيرًا في الدراسات العربية والأجنبية عن تاريخ السينما المصرية.
يقول الكتاب تحت عنوان:
أفلام ما بعد الحرب
في سنة 1945 بدأت مرحلة جديدة في تاريخ السينما المصرية، وهى مرحلة أفلام ما بعد الحرب، وفي هذه المرحلة زاد إنتاجنا السينمائي إلى حد هائل إذ دخل ميدان الإنتاج عدد كبير من الذين أثروا ثراء سريعا بسبب الحرب، ولم يكن معظمهم يهتم بالفن قليلا أو كثيراً، إنما كان هدفهم الأول والأخير هو التجارة، ولكي تدرك حقيقة ما حدث، يكفى أن تتأمل هذه الأرقام:
في موسم 1943 - 1944 أنتجنا 16 فيلما
في موسم 1944 - 1945 ارتفع عدد أفلامنا إلى 28 فيلما
-في موسم 1945- 1946 قفز هذا العدد إلى 67 فيلما
وهكذا ظهرت في هذه المرحلة موجة من الأفلام التافهة، أفلام تعتمد على قصص ساذجة، يتم تصويرها في أقصر وقت ممكن حتى يمكن عرضها بسرعة لكي يسترد المنتج أمواله ويبدأ في جمع الأرباح الخيالية التي تدرها الأفلام.
فظهرت أفلام میلودرامية، وأفلام جنسية، وأفلام فكاهية رخيصة تعتمد على النكتة اللفظية والرقص ومشاهد الإغراء.
كانت هذه المرحلة هي بداية السقوط في صناعة السينما المصرية، ونعنى بالسقوط هنا هبوط المستوى الفني بشكل واضح، ولكن هذا السقوط لم يكن يعني مع الأسف هبوطا في إيرادات شباك التذاكر، وهذا هو السبب في كثرة عدد الأفلام التي ظهرت في هذه المرحلة، وعندما تعرف أن فيلما اسمه "طاقية الإخفاء" بلغت تكاليفه أربعة آلاف وخمسمائة جنيه وصلت أرباحه إلى اثنين وتسعين ألفا من الجنيهات، ستفهم لماذا تحول كثيرون من أغنياء الحرب إلى منتجين سينمائيين.
ولكن إلى جانب هذه الموجة من الأفلام التافهة ظهرت حفنة من الأفلام الطيبة مثل أفلام ستوديو مصر وأفلام محمد كريم وأفلام آسيا وأحمد جلال، ومن تلاميذ مدرسة ستوديو مصر برز اسم مخرج جديد هو صلاح أبو سيف الذي قدم في سنة ١٩٤٦ أول أفلامه "دايما في قلبي" الذي اقتبست قصته من الفيلم الإنجليزي - جسر ووترلو، وفيه قامت عقيلة راتب بالدور الذي مثلته فيفيان لى، وقام الوجه الجديد عماد حمدى بالدور الذى مثله روبرت تایلور.
وقدم كامل التلمساني في الموسم نفسه فيلمه الأول "السوق السوداء " الذي يعتبر استمرارا لمدرسة كمال سليم الواقعية، وكان هذا الفيلم يعالج مشكلة خطيرة كانت موضوع الساعة في ذلك الحين، وهي مشكلة الاتجار بقوت الشعب، وعلى الرغم من أن المستوى الفني للفيلم كان جيدا فإنه لم يحقق إيرادات طيبة وفشل فشلا ذريعا، وأصيب مخرجه الفنان الشاب بصدمة شديدة أفقدته الثقة بنفسه، واختفى بعد ذلك من الميدان فترة طويلة ثم عاد إليه فأخرج أفلاما تجارية هزيلة بعد أن اقتنع بأن الظروف لم تكن تسمح وقتذاك بإخراج أفلام واقعية أو أفلام تعالج مشكلات الشعب الحقيقية، وفي أواخر الخمسينات سافر كامل التلمساني إلى بيروت حيث هجر میدان الإخراج نهائيا.
ولمع اسم مخرج ثالث من تلاميذ مدرسة ستوديو مصر وهو أحمد كامل مرسى وأقوى الأفلام التي أخرجها هو فيلم "النائب العام" الذي قام ببطولته حسين رياض وعباس فارس و سراج منير وزوز و حمدى الحكيم، وقصة الفيلم مأخوذة من مسرحية حققت نجاحا هائلا على خشبة المسرح القومي قام ببطولتها نجوم هذا المسرح الذين قاموا بعد ذلك بأداء أدوارهم نفسها في الفيلم، والمسرحية ليست مؤلفة وإنما اقتبسها أحمد شكرى عن مسرحية ألمانية وقام بتمصيرها، كما كانت العادة وقتئد في المسرح المصرى.
وعلى الرغم من أن هذا الفيلم جاء خاليا من الأغاني والرقص والمشاهد الفكاهية فقد أقبل عليه الجمهور إقبالا طيبا، حطم الخرافة التي كانت شائعة وهي الجمهور عاوز كده، التي كان كثيرون من السينمائيين يبررون بها المستوى الهابط الذي يبدو في أفلامهم.
وتتلخص قصة "النائب العام" في أن موظفا شابا (زكي رستم) يعمل صرافا في مصلحة حكومية اتهم باختلاس مبلغ صغير من الخزينة. وكان قد أخذ هذا المبلغ من الخزينة فعلا لكى يشتری به دواء لوالدته المريضة . ولكنه لم يكن شريرا أو مجرما بل كان شابا طيبا ومن أسرة متدينة.
في المحكمة يشن وكيل النيابة الشاب ( عباس فارس) حملة شعواء على المتهم فتحكم عليه المحكمة بالسجن عدة سنوات. وتكون النتيجة أن شقيق هذا المتهم وهو طالب بالأزهر (حسين رياض) يتجه إلى دراسة القانون ويصبح قاضيا ويشتهر بعد ذلك بأحكامه الخفيفة التي يصدرها على المتهمين في القضايا التي ينظرها. وكان هذا مرجعه إلى أنه لا يريد أن تتكرر مع أى متهم الغلطة التي حدثت لأخيه منذ بضع سنوات عندما لم تراع المحكمة ظروف المتهم فتصدر عليه حكما مخففا.
وأخيرا يقف أمام هذا القاضي في قفص الاتهام وكيل نيابة شاب (سراج منير) اتهم بقتل راقصة، وكان هذا الشاب هو ابن النائب العام (عباس فارس) وينتهى الفيلم بحوار بديع بين النائب العام والقاضي الرحيم يكشف فيه القاضي قصة شقيقه الذي راح ضحية قسوة وكيل النيابة الذي يتمسك بحرفية القانون.
وعلى الرغم من أن أحمد كامل مرسى يعتبر من أكثر مخرجينا ثقافة إلا أنه ترك ميدان الإخراج منذ أكثر من عشر سنوات، وانصرف إلى دبلجة بعض الأفلام الاجنبية إلى اللغة العربية وإلى اخراج بعض أفلام تسجيلية قصيرة معظمها عن الرسامين المشهورين مثل محمود سعيد وراغب عياد.
وفي هذه المرحلة أيضا ظهر ثلاثة من المخرجين الجدد الدين ومنهم عز الدين ذو الفقار الذي قدم فيلم (أسير الظلام) وقامت ببطولته مديحة يسرى ومحمود المليجى ونجمة إبراهيم. و امتازت أفلام عز الدين العاطفية بالشاعرية والرقة . وقد وصفه أحد النقاد بأنه "شاعر وراء الكاميرا"، وأنجح أفلامه هي "بين الأطلال» المأخوذة عن قصة يوسف السباعي، و"رد قلبی" لنفس المؤلف، و "نهر الحب" المقتبس عن قصة "أنا كارنينا" للأديب الروسي تولستوی.
والمخرج الثاني هو أنور وجدى الذي قدم سلسلة من الأفلام الاستعراضية الناجحة مثل "ليلى بنت الفقراء" و"عنبر " و "غزل البنات"، وكان أنور وجدى يجمع بين التأليف والإخراج والإنتاج والتمثيل وقد حقق فيها جميعا نجاحا طيبا، ولم يأت هذا النجاح بالصدفة، وإنما جاء ثمرة خبرة طويلة، فقد عمل أنور وجدى بالمسرح مع فرقة رمسيس ثم الفرقة القومية (المسرح القومي الآن )، وظهر فى السينما وقام ببطولة عدد كبير جدا من الأفلام وظل طوال الأربعينات نجم الشاشة الأول.
وأحس بعد زواجه من المطربة ليلى مراد التي كانت من ألمع كواكب الشاشة، أنه يستطيع أن يسد النقص الموجود في السينما المصرية وذلك بتقديم أفلام استعراضية جيدة . فألف شركة للإنتاج كان هو الذي يؤلف قصص أفلامها ويخرجها ويقوم ببطولتها، وتمتاز هذه الأفلام بجودة قصصها، وهكذا عالج أنور وجدى العيب الجوهري الذي كانت معظم أفلامنا الاستعراضية تعاني منه وهو تفاهة القصة.
وحقق أنور وجدى أيضا نجاحا طيبا في تقديم الأغنية السينمائية، وأحسن نموذج على هذا النجاح الأغنية الفكاهية التي غناها نجيب الريحاني في فيلم "غزل البنات " ومطلعها : (علشانك انتى انكوى بالنار والقح جتتي .. وأدخل جهنم و انشوى وأصرخ وأقول يادهوتی".
وعلاوة على هذا فقد كان أنور وجدى كمنتج في غاية البراعة والذكاء، وليس أدل على ذلك من فيلمه الناجح غزل البنات الذي اشتركت في تمثيله مجموعة من الفنانين الكبار ومنهم نجيب الريحاني وليلى مراد ومحمد عبد الوهاب ويوسف وهبى وسليمان نجيب و محمود المليجي وأنور وجدى.