حازم حسين

وردة على قبر صنع الله ومكتبته.. ما وراء الافتتان برجل قال كلمته وكما يموت الناس مات

الخميس، 14 أغسطس 2025 02:00 م


أزاح عن كاهله أعباء الثمانين وأدواءها، وخرج إلى نهاره الدائم كما كان أجداده القدامى يخرجون. لا إلى تمثال يستند أو خرطوشة ملكية؛ لكنه لا شك يضمن الخلود مع الخالدين. وحتى تلك المسألة لا تعنيه فيما أظن؛ إذ لم يكن باحثًا عن المجد من زواياه التقليدية المطروقة، ولا مشغولاً باعتبارات البقاء فوق حد الدور والمسؤولية.

كُنت شابًا صغيرًا يتلمّس أطراف عالم الثقافة والأدب، عندما وقف الرجل النحيل على منصّة مُلتقى الرواية العربية، مُعلنًا رفض الجائزة الممنوحة له، على خلفيّة موقف سياسى ناقد لِمَا يراه من مآخذ بشأن الديمقراطية والحريات والقضية الفلسطينية.

مرّت اليوم اثنتان وعشرون سنة على اللحظة التى أدهشت الجميع، وأثارت من اللغط ما يتخطّى مكانها وزمانها، فيما عاد الرجل يومها إلى بيته غالبا أكثر خفّة ونحولاً؛ إنما بما لا يختلف عن عودته اليومية المُعتادة. ما فعلها استعراضًا أو طلبًا لبطولة، وما كان الأمر يتخطّى لديه الوفاء بالتزاماته تجاه نفسه أوّلاً، ثم أن يقول كلمته ويمضى.

وهذا فيما أظن مفتاح أصيل من مفاتيح شخصية صنع الله إبراهيم. وقد ظلّ طوال الوقت دون الذيوع المُطلق، وفوق حدّ التجاهل والنسيان. كبير القيمة والقدر من دون شَكّ؛ لكنه أقرب إلى عُمّال الصيانة الذين يستلقون تحت الماكينات؛ ليضبطوا حركتها ويُعايروا كفاءة الأداء، وقد لا تلحظ وجودهم دوما؛ لكن إيقاع الحياة لا ينضبط فى غيابهم على الإطلاق.

أُخذت بالحالة فى تلك الليلة المذكورة من خريف العام 2003، واستشعرت أننى إزاء بطل خرج لتوّه من زمن الملاحم والأساطير، يُضحّى بالمال عن احتياج قطعًا، ويُغامر باستعداء المؤسسة وسدنتها ومَن فى معيّتهم من مُثقّفى الحظيرة؛ على الخطاب الشائع وقتها؛ لكنه يُدافع عن انعكاس وجهه فى المرآة، ويكتفى من العالم بأن يحترم نفسه، ويخلد إلى فراشه قارّ العين ومرتاح البال والضمير.

كتبتُ قصيدة تُناغيه من بوّابة الاسم المُلفت وغير المُستهلك. لم أكن أعرف أنه إشارة ربّانية صنعتها المُصادفة بين أبٍ تخطّى الستين، ووليدٍ يجيئه بعدما بلغ من الكِبَر عتيّا. فتح الرجل المصحف فكانت آية «صنع الله الذى أتقن كل شىء»، وكان المُسمّى المنذور لصاحبه من فوق سبع سماوات.

ولا أُنكر أننى تحرّرت لاحقًا من سطورة العاطفة والانفعال، وأعدتُ تدوير المشهد على الوجوه كلّها؛ فامتزج الإعجاب بالاستغراب نوعًا ما، لا سيّما أن الجوائز لا تسقط من السماء على رؤوس أصحابها. يكون الترشيح فالاختيار فالإخطار والقبول، أى أن المسألة عُرِضَت عليه قطعًا، وكان بإمكانه الاعتراض أو الاعتذار؛ لكنه تقبّلها على نيّة الرفض، وسجّل غضبته الصاخبة همسًا، على ما فيها من إرباك رآه البعض من قَبيل المُزايدة والسطو على بطولة مجّانية.

لم يكن صنع الله غِرًّا وقتها؛ بل فى عقده السابع. وقد قضى عقودًا بين الظلّ والتحمُّم بالضوء الزهيد، وما بان منه سعى إلى استراق الشهرة أو المزاحمة عليها بالمناكب. وإذا كان العجوز المُجرّب انحاز إلى إطلاق رصاصته بتلك الطريقة الفجّة؛ فالمؤكّد أن لديه منطقًا ما، وأن فى الحكاية أو سيرة صاحبها ما يشفع له، ويُوجب النظر من منطقة أكثر أُلفة وإحسانا للظن.

ومن جديد؛ أعدت النظر فى القديم الذى تبدّلت على مقاربته مرّتين، وكلما كانت تحضرنى صورة صنع الله إبراهيم، يُلاقيها على الفور عجُز بيت المتنبى الشهير «ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ»، وهو ما أيقنت فى الأخير أنه يُلخِّص شخصية الرجل وفلسفته، وأنه ربما لم يكن معنيًّا بالمادحين والهجّائين، ولا بإقامة الفعلة على ميزان التقدير الصائب أو المخطئ أصلاً. لقد فعلها عن إيمان خاص، وبانفعالٍ يُسكِّن المُتأجّج فى صدره دون انشغال بالآخرين، كما يليق بصنف من البشر يتمثّلون دومًا آية إنجيل مرقص الضاربة فى نخاع الوجود: «لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه».

تصالحت على الغاضب العظيم، ولم أكن خاصمته أصلاً. إنها طريقته فى التأريخ لإطلالته على دراما لم يكتبها، ولا سبيل لديه إلى تصويب انحرافاتها. زفرة المثقف العضوى عندما يبدو عاجزًا عن الفعل، قادرًا عليه وراغبا فيه أيضًا، فيما لا يترك له الفاعلون بالسطوة وقوّة الأمر الواقع هامشًا لأن يُؤذّن فى الناس، أو يُلقى عليهم موعظته التى يُسائل نفسه فيها، ويخشى ألا يجد الجواب، أكثر من خشيته أن يُسأل عليها فى مُحاكمة معرفية أو ميتافيزيقية.

والحق؛ أنه كان عضويًّا وفق الفهم المنقول عن المنظر الماركسى الإيطالى أنطونيو جرامشى، يملأ الحيّز العريض بين السلطة والفرد؛ وإن لم يكن بمقدوره أن يُجرّع الدواء للمرضى. وكان مُلتزمًا كأقصى ما يكون الالتزام، لدى سارتر أو غيره؛ فلم يحلّ عُقدة الاجتماع عن عقله أو يزيح أثقاله عن كاهله.

كان ناقمًا باعتبار الغضب مدخلاً أساسيًّا إلى المساءلة الجادة، وناقدًا لأنه لا معنى للتصالح مع سياقات رديئة، وفيما بينهما ظلّ هامسًا فى الفواصل المُتاحة بين صخب العالم؛ كى لا يُقاوم السوء بمادّته، أو ينجرف فى معارك الحناجر والشعارات الساخنة، أو يُحمِّل الناس فوق ما يُطيقونه وقد تكالبت عليهم عوادى الأيام وأحمالها المرهقة.

وقع على وصفته الخاصة اللامعة، بين التأريخ والتوثيق وفلسفة الوجود ومُقارعته بالتفاصيل التى لا يتوقّف أمامها عابروه والعائشون فيه. وإلى جانب التقشّف فى اللغة والجماليات، بل وفى العناوين اللمّاحة بغير إفصاح ولا تعمية؛ فإنه رفع اليومى من مدار الابتذال إلى أن يكون حجّة على القيمى والأيديولوجى، وأداة للتفكيك وإعادة التركيب على صُوَر أبسط ظاهرًا، وأعقد فى مضامينها ومراميها، ملتمسًا الصراعات فى مستوياتها المُتعددة، من الطبيعة إلى الطبقية والأفكار والعلاقات، مُتتبعا التحولات الثقافية والاجتماعية فى تجلّياتها الإنسانية البسيطة، ومقاومًا بالمعنى السياسى والثورى؛ كتنويعة نضالية على مسار النزوع إلى التغيير.

ولأن الجغرافيا تاريخ ساكن كما قال جمال حمدان، وكان صنع الله مشغولاً بالزمن باعتباره وعاء الديالكتيك بكل ما فيه من جدليات بين المُتناقضات؛ فقد كانت الخرائط هامشًا لديه على متن أوسع. وقد تقافز فيها من مجاله الحيوى القريب فى مصر بأطوارها المُتتابعة، عابرًا إلى بيروت فى حربها الأهلية، وإلى ثورة ظفار فى عُمان، وعناق الثقافات واشتباكها تحت سقف الامبريالية أو الصيرورة الاجتماعية وتحولاتها، كما فى القانون الفرنسى أو العمامة والقبعة.

سجّل مشاهداته على الفضاء الأوروبى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عائدًا بالزمن أربعين سنة تقريبًا، ليستجرّ ما كان من أجواء الحرب الباردة وسطوة الشمولية فى ألمانيا الشرقية. فيبدو ظاهرًا أنه يُوثّق للمكان؛ فيما يدخل فى صميم الاجتماع وعروق البشر، ويتلمّس المُشتركات بين الناس؛ إذ يظل الإنسان واحدًا مهما اعترته المنغصات وتعقّدت من حواليه الحوادث، والجوهر الواحد للوجود قد يُعمّى عليه؛ لكنه لا يُطمَر ولا يُمسَخ لدرجة انقطاع حلقات السلسلة عن بعضها تماما، من دون إغفالٍ للتفاوتات، أو استسلام لها أيضًا.

كان صنع الله سائحًا جوّالاً، ومواطنًا كونيًّا يسكنُ فى كل البيئات على التوازى. يختلط البشر لديه فى ماعون واحدٍ، ويُقَطّرون لحمًا ودمًا ورموزًا وعلامات. أصيل للغاية فى اشتباكه مع اللحظة المقصودة، وعميقا جدا فى فلسفتها واستكناه جوهرها. ولهذا كان رقيبًا وشريكا وخصما وقاضيا؛ من دون أن يكون أحدها قيدًا على الآخر، أو يختل توازنها، أو تضيع البوصلة منه شخصيًّا ويضل الطريق.

والالتزام الحاضر فى الحكايات، كان يُجالسه على المقهى ويُماشيه فى الأسوق والطرقات. وليس بالفورة المُتوقّعة فى زمن الشباب فحسب، وقد أودت به إلى معتقل الواحات سنينا، من آخر الخمسينيات إلى قُرب أواسط الستينيات؛ بل حتى أعوامه الأخيرة لم يتوقّف عن اقتراف الخطيئة المقدسة، وقد كان فى طليعة الرافضين لمُمارسات الإخوان عقب وصولهم للحُكم، وعلى رأس الحاضرين فى اعتصام وزارة الثقافة، والمُحتضنين للهبّة الشعبية التالية فى 30 يونيو 2013.

سيرة صنع الله إبراهيم أكبر كثيرًا من حكّاء ماهر، يُؤسِّس أدبه على موقف اجتماعى وثقافى لا يخلو من انفعالية سياسية واضحة؛ إنما تتسع لتُمثّل سجلّاً عريضًا لجيلٍ وبلدٍ ومنظومة أفكار وتطلّعات، لأحلامٍ تضخّمت بما يفوق قدرات أصحابها، وأخرى تفلّتت من أصابعهم رغم الاقتدار عليها، وللعثرات التى خلّقتها الطوباوية الزائدة، ونفخ فى هيكلها التفاؤل، وفجّرها الواقع الكئيب بين أياديهم وفى دواخلهم.

لست مِمّن يرون الموت شرًّا، ولا أنا مُغرم بالبكاء على الراحلين بدعوى الخسارة الفادحة وتهدُّم عُمد البيت. فقدانٌ عزيزٌ من دون شَكٍّ، وقيمة لن تُعوَّض قطعًا؛ لكنها طبائع الأمور ومواعيد لا تتقدّم ولا تتأخر، و«كما يموت الناس مات» على ما قال أمل دنقل.

إنما من وراء التطبيع مع الموت، يلتمع فى ساعة الكشف مدى احتياجنا للحياة، فى صنع الله وأدبه، وفى غيره من المظاليم والغائبين عن مدار التأثير. أن نعرف أن القيمة المُمثّلة فى ذاك الصنف من البشر المُبدعين، تفوق ما يُمكن أن يُسجَّل عليهم أو يُختَلَف معهم فيه، وأن «القوّة الناعمة» ليست شعارًا، ولا قيمة لها إن لم تكن فاعلاً حقيقيًّا.

يُمكن أن يكون الرحيل فرصة للاستدراك على ما فات، ومنح الرجل ما يليق به ولم يحصل عليه، ولم يكن يطلبه أصلاً. والإنصاف يقتضى أن نزنه بما يستحق، وأن نستوفى منه حقوقنا الكاملة عليه؛ ألا وإن أهمّها أن يُمكَّن من إنجاز أدوارهم فى التنوير والإمتاع والإلهام على أوسع ما يمكن، وهو وغيره وكل القبيلة المُبدعة، من الحاملين لهوية هذا البلد والمُعبّرين عن روحه وعقله المُركَّب وحضارته النَيِّرة.

وبحقٍّ؛ فإنه لم يُقرأ على الوجه الأمثل حتى الآن، ويغيب عن أجيال عِدّة أغلبهم لا يهتمون بالثقافة؛ لكن المُهتمين بها لا يعرفونه بما يكفى ويجب. لعلّها فرصة للدخول إلى تجربة باذخة، والتلصص عليها كما كان يُحسن هو التلصص على العالم، والوقوف بخشوع فى حضرة رجل قال كلمته ومضى، ويجب ألا يضيع أثرها فى فراغ كاتم، أو صخب قاتم.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب