عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تشكل النظام العالمي ثنائي القطبية، بين قيادة أمريكية للغرب وأخرى سوفيتية للشرق، وهو ما ترتب على تراجع أوروبا جراء الدمار الذي ألم بها في أعقاب الحروب، واندثار زمن الامبراطوريات التي بزغت في حقبة الاستعمار، بينما أفضت الحرب الباردة، إلى حالة من الهيمنة الأحادية، جراء انتصار الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، إلا أن الصعود الأمريكي، ومن وراءه الغربي، انطلق من الشرق الأوسط وأوضاعه المشتعلة جراء الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة بعد الدور الذي لعبته واشنطن في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في أواخر السبعينات، والتي ساهمت في تعزيز نفوذها في تلك المنطقة من العالم، مما أسهم بصورة كبيرة في إحكام قبضتها على النظام الدولي.
ولعل ارتباط التغييرات الجذرية في طبيعة النظام الدولي بانهيارات بنيوية بالجغرافيا السياسية أمر حتمي، في ضوء عجز النظام القائم على احتواء الأوضاع في منطقة بعينها، إلا أن اللحظة الراهنة، في واقع الأمر لا تقتصر على الوضع في نقطة جغرافية محددة، وإنما تتسم بامتدادات واسعة، يواصل فيها الشرق الأوسط اشتعاله، في الوقت الذي تشهد فيه أوروبا الغربية أخطارا وجودية جراء اقتراب الصراعات العسكرية المباشرة من محيطها الجغرافي، لأول مرة منذ حقبة الحروب العالمية، ناهيك عن التخلي الأمريكي المعلن عن الحلفاء التاريخيين، بينما لا تبدو مناطق أخرى بعيدة عن خطر الصراع، في ضوء المناوشات الأخيرة بين الهند وباكستان، ومخاوف تطرأ بين الحين والآخر في شبه الجزيرة الكورية، وغيرهما.
والمفارقة الملفتة، أن المرحلتين سالفتي الذكر (الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة) ساهما معا في تشكيل الهيمنة الأمريكية تدريجيا، فالأولى وضعت واشنطن على عرش المعسكر الغربي، من بوابة الانهيار الأوروبي، بينما الثانية دفعت إلى القيادة الأمريكية المنفردة، من أنقاض الشرق الأوسط، في حين تبقى اللحظة الراهنة، بمثابة انقلاب ناعم على الهيمنة الأمريكية، في ضوء رغبة إدارة الرئيس دونالد ترامب في تعزيز الحالة الأحادية، عبر السيطرة المطلقة، القائمة على إخضاع الحلفاء قبل الخصوم، وهو ما بدا في موقفه من أوكرانيا، وسياساته التجارية والاقتصادية، والتي تمثل تحديا صارخا لأوروبا الغربية التي طالما لعبت الدور الأبرز في إضفاء الشرعية على الدور القيادي الأمريكي للعالم.
الهيمنة الأمريكية لم تكن مجرد استعراض للقوة الصلبة فقط، بل اعتمدت، في جزء كبير منها، على شرعية ناعمة، صاغتها واشنطن بتحالفٍ محكم مع أوروبا الغربية، حيث تشارك الطرفان في تصدير نموذج سياسي واقتصادي يحمل في ظاهره القيم الليبرالية، ويمنح القيادة الأمريكية غطاءً أخلاقيًا عالميًا. هذا التحالف لم يكن مجرد اتفاق مصالح، بل تجسيدٌ لرؤية موحدة للعالم، تماهت فيها أمريكا مع الغرب، وغُلف فيها النفوذ بالقانون الدولي، والعولمة، والهيئات العابرة للحدود، التي عززت من قبول العالم للقيادة الأمريكية بوصفها ضرورة وليس خيارًا.
إلا أن هذا البناء المتماسك لم يتعرض لهزة أكثر عمقًا من تلك التي أحدثها دونالد ترامب، فالرئيس الأمريكي لم يكتفِ بإعادة ترتيب أولويات بلاده، بل وجّه ضربات مباشرة إلى أعمدة التحالف التقليدي ذاته، ففي ظل خطابه الشعبوي، تحوّلت السياسة الخارجية إلى امتدادٍ مباشر لفكرة "أمريكا أولًا"، لا بوصفها شعارًا انتخابيًا، بل كعقيدة استراتيجية قائمة على فك الارتباط مع الالتزامات القديمة، وفرض معادلة "الحماية مقابل الدفع"، ليس على الخصوم وحدهم، بل على الحلفاء أنفسهم، لتتحول واشنطن من شريك موثوق إلى قوة تلوح بالعقاب، وتفاوض من موقع المصلحة البحتة، حتى ولو كانت على حساب البنية التي قامت عليها شرعيتها الدولية لعقود.
ولذلك تصدّعت القيادة الغربية من داخلها، وفقدت أمريكا قدرتها على الإقناع، بينما تراجعت أوروبا أمام اختبار القيادة، فلم تعد واشنطن تملك الموارد ولا الإرادة لاحتواء الأزمات العالمية، في ظل انقسام داخلي مرير، واستقطاب سياسي حاد، وانكفاء استراتيجي لا تخطئه العين، وفي المقابل، لا تبدو أوروبا قادرة على ترجمة اعتراضها إلى سلوك مستقل، إذ تعوزها القدرة العسكرية، وتفقد وحدة القرار مع كل أزمة، وبين هذا وذاك، تتربّص القوى الصاعدة، من روسيا إلى الصين، مرورًا بإيران وتركيا، بانتظار لحظة الانهيار الكامل لمنظومة طالما حالت دون توسّعها، وقيّدت طموحاتها.
وفي القلب من هذا المشهد، تحول الشرق الأوسط، المنطقة التي مثّلت طيلة عقود ساحة اختبار للنماذج الكبرى، إلى "مقبرة" لتلك النماذج ذاتها، فكما صنعت الحرب على الإرهاب مجد أمريكا الأمني، فإن عجزها في العراق، كان ذروة الفشل، وكما دشّنت واشنطن نظامًا إقليميًا جديدًا بمعاهدة كامب ديفيد، فإن عجزها عن فرض تسوية عادلة في فلسطين، أو فشلها خلال شهور تقترب في مجملها من عامين كاملين، في إجبار حليفتها المدللة (إسرائيل) على الاستجابة لنداء وقف إطلاق النار في غزة، أو حتى الانتصار لها، خلال الحرب مع إيران، كان كاشفا للتراجع الكبير ليس فقط في النفوذ الأمريكي، وإنما أيضا في عدم قدرتها على الاحتفاظ بدورها كـ"شرطي" العالم، الذي من شأنه الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، كأولوية قصوى للقوى المنوط بها إدارة الكوكب، خاصة بعدما أثبتت فجاجة موقفها المنحاز لصالح طرف واحد على حساب أطراف المعادلة الإقليمية الأخرى.
وهنا يمكننا القول بأن التساؤل الذي يطرح نفسه عما إذا كانت رؤية واشنطن، القائمة على تحقيق الهيمنة المطلقة ذاتية الشرعية، جائزة التحقيق، أم أن الحل يكمن في التعددية، عبر اعتماد قيادات إقليمية من شأنها إدارة مناطقها الجغرافية، أم مفهوم القيادة في حد ذاته في حاجة إلى إعادة تعريف، في ضوء الأهمية الكبيرة لتهدئة الحالة التنافسية بين أطراف المعادلة الإقليمية، عبر تعزيز مبادئ الشراكة بين القوى المؤثرة لتحقيق المصالح المشتركة.