بقدر ما يبدو السؤال عن مغزى اختيار "عالم خارج النص" عنوانا وشعارا لمهرجان عمان السينمائى الدولي.. أول فيلم، فى دورته السادسة المنعقدة حاليا والمستمرة حتى العاشر من شهر يوليو الجارى، عفويا وسهلا ومطلوبا فى ذات الوقت، فإنه هناك بساطة ووضوح فى الإجابة عليه: إنّها اللحظة الأنسب لطرح عنوان كهذا، وكذلك لطرح سؤال كهذا، من خلال مهرجان عربى ومنبر سينمائى ينفتح على تجارب من العالم كله، ويتّسع للعديد من الأفلام التى تقارب الواقع الإنسانى بتنوعاته وتبايناته وأنماطه المختلفة فى الطرح والتفكير ومواجهة الحياة وقسوتها.
يُلفت العنوان الانتباه، وربما يحاول إيجاد توازنٍ بين واقع كابوسى وصنيع بصرى يتحرّر، قدر المستطاع، من البؤس المحيط بنا ولعله كذلك يفعل ويتخلص من خطابيّة فجّة أتعبتنا كثيرا، صنيع بصرى ينحو صوب الأمل بحيوية تعتمل فى نفوس صناع وفنانين يحرِّضون على الحلم فى لحظتنا الراهنة، المثقلة بالانهيار والفوضى.
هذا العنوان/ الشعار، لعله يُراد به التصدى لهذا العالم المتوحش والتذكير بثوابت فى وجداننا الإنسانى ووعينا المعرفى، يرافقنا فى زمنٍ شاهد على وحشية غير مسبوقة.
لعله وانطلاقا من هذه الزاوية، عبرت الأميرة ريم علي انطلاقاً من تلك القناعة، تحدّثت الأميرة ريم على رئيسة المهرجان فى كلمتها خلال حفل الافتتاح: "نرفض أن نموت ثقافيا، حتّى وأدوات الموت والدّمار تحلّق فوق رؤوسنا".
داعية فى كلمتها بافتتاحية كتالوج المهرجان بالغوص فى (عالم خارج النص):"شعار يعكس واقع منطقتنا اليوم، بما يحمله من عدم يقين واضطراب، لكنه يزخر أيضا بروابط إنسانية وفرص واعدة". مشيرة إلى أهمية سرد القصص وتقديم رواة القصص وصنّاع الأفلام فى منطقتنا العربية والعالم كله.. الجميع فعلا يجب أن يشارك فى سرد حكاياته فى العالم الذى خرج عن النص والإنسانية.
أيام قليلة قبل المهرجان، كانت الأردن ومنطقتنا العربية والشرق أوسط العربية فى وسط الحرب الإسرائيلية - الإيرانية، إنه الحال الذى نعيشه جميعا ويتصاعد بالوحشية الإسرائيلية تجاه غزة وناسها، هنا يظهر سؤال آخر: هل لا بد من الاستسلام للقلق والذعر من فكرة اشتعال الحرب؟ فى رأيى أن تاريخ هذا الصراع الطويل أثبت أنّ المقاومة ضرورية، وأن السينما واحدة من أسلحة المقاومة المهمة، وعلى هذا الأساس واصل المهرجان واستمرّ، على الرغم من الأحداث المتسارعة.
إنه الأمر الذى ذكرته ندى دومانى مديرة المهرجان فى كلمتها: "الفترة الماضية كانت عصيبة فى المنطقة ولا تزال، من السودان حيث تستمر الكارثة الإنسانية بعيدا عن الأنظار، إلى لبنان الذى عانى على مدى أشهر من حرب دمرت وقتلت وشردت، مرورا باليمن الذى تحول من سعيد إلى غارق فى الحزن، ندرك أكثر من أى وقت مضى ضرورة وأهمية أن نحكى قصتنا وأن ننقل سرديتنا كما هي. بقيت هذه الحاجة فى عالم فقد إلى حد بعيد بوصلته المعهودة وخرجت السرديات عن نطاقها المألوف. وتبقى الحكاية الفلسطينية الأشد ألما ومقياسا لإنسانية منتهكة".
إذن عند هذه النقطة، يبدو أن المهرجان ومنظميه أرادوا أن يتصدوا لعالم مجنون رؤا أنه خرج عن نص الإنسانية، وهذا أمر جدير بالتقدير، لكن لا بد من الإشارة أن المهرجان المعنى بالأفلام الأولى لصانعيها والداعم للتجارب الحقيقية، والمعنى كذلك بالبيئة مهتما بكوكبنا وسلامته ومحاولة المساعدة لنهوضه من تحت أكوام النفايات والعنف والحروب، هو ذاته المهرجان الخارج عن نص هذا العالم القاسى، نشعر بفداحة هذه القسوة فى الحكاية التى طرحها فيلم الافتتاح الفلسطينى "ما بعد" (32 دقيقة، 2024) للمخرجة مها حاج.
رجلٌ وامرأة فى مزرعة معزولة يعيشان حالة من حالات الروتين اليومى، من العمل فى المزرعة إلى الانخراط فى العمل المنزلى وخصوصا المرأة تعد الطعام ويتناولانه سويا ثلاثة مرات ثم يتحدثان عن أولادهما الخمسة (أربعة أولاد وفتاة)، نفهم أنهم يُقيمون فى بلاد مختلفة.
كلّ شيءٍ يبدو عاديا لأب وأم تقدما فى العمر وهجرهما أولادهم لحياتهم الخاصة وتفرقت بهم السبل، بينما هما يستعيدان ذكرياتهما ويتشاكسان حول علاقتهما بأولادهم، محمد بكرى وعرين العمرى إنغمسا فى أدوارهما بشكل لافت، تماهيا مع الشخصيات الغارقة فى ماضيها وسط فضاء موحش إلى أن يأتى صحفى يقتحم حياتهما: "اسمى خليل ونكتشف معه هذا الوجع اللا نهائى، فالأبوين كان يعيشان فى غزة، قبل أن يدمر العدو الإسرائيلى حياتهما ويقتل أطفالهما جميعا، فيعتزلا الجميع ويدخلا فى هذه الحالة الموحشة ونعيش معهما جرحهما الغائر الذى لا يندمل.
إبادة الفلسطينيين فى غزّة لا تتوقف، والمقاومة على قدر الوجع، ومهرجان عمان يواصل فاصله الثقافى والفنى والإبداعى، وجها من وجوه المقاومة ويشرع فضائه منصة للسرد الإنسانى الممتد، ولا تزال الفعاليات قائمة والحدث مستمر، حيث يعرض 62 فيلمًا عربيًا وعالميًا، وتتنافس 10 أفلام على جوائز مسابقة الأفلام العربية الروائية الطويلة، و7 على جوائز مسابقة الأفلام العربية الوثائقية الطويلة، و19 فيلمًا قصيرة على جوائز مسابقة الأفلام العربية القصيرة- "العمل الإخراجى الأوّل"، و7 على جوائز مسابقة الأفلام غير العربية -"العمل الإخراجى الطويل الأوّل".
كما تحل السينما الإيرلندية بـ 5 أفلام، اثنان منها للمخرج الإيرلندى الشهير جيم شيريدان، المرشح لـ 6 جوائز أوسكار، أحد أبرز ضيوف المهرجان.