التحدي الأكبر الذي واجه القضية الفلسطينية على مدار العقود الأخيرة، تجلى بوضوح في سياسة المحاور التي قسمت المعسكر الداعم لفلسطين، بين "ممانعة" و"اعتدال"، وهو ما ساهم بصورة أو بأخرى، في توسيع جبهات الصراع في إطار "بيني"، بين أطراف المعادلة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما حاول الاحتلال وحلفائه استثماره، عبر خلق قضايا أخرى، من شأنها زعزعة ما تحظى به القضية الأم من مركزية مطلقة، إلا أن ثمة جهود، قادتها الدبلوماسية المصرية في واقع الأمر خلال السنوات الماضية، ارتكزت في الأساس على مسارين متوازيين، أولهما توسيع مفهوم الشراكة، ليكون بديلا للتحالفات التقليدية، وهو ما يمثل مواكبة حية لما تقتضيه الحالة الدولية في صورتها الحالية، من جانب، بينما يقوم المسار الآخر، على تصفير الصراعات، وإن بقت الخلافات، عبر تعظيم المصالح المشتركة.
ولم يقتصر مفهوم الشراكة الذي تقوده الدبلوماسية المصرية على الإطار الإقليمي الضيق، بل تجاوز ذلك نحو هندسة علاقات أوسع تُبنى على امتداد جغرافي متكامل، هذه العلاقات، التي يمكن وصفها بأنها "استراتيجية ممتدة"، تربط منطقة الشرق الأوسط بأقاليم أخرى، بدءًا من العمق الإفريقي، مرورًا بالقارة الأوروبية، ووصولًا إلى الامتداد الآسيوي، وقد انعكست آثار هذا التمدد الجغرافي على مركزية القضية الفلسطينية، لا سيما خلال مراحل العدوان على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر.
فقد أفضى هذا التوجه إلى حالة من الإجماع الإقليمي غير المسبوق، تبلورت في دعم واسع للجهود المشتركة بين مصر وقطر لوقف إطلاق النار ومنع تنفيذ مخططات الاحتلال الهادفة إلى تهجير الفلسطينيين وتصفية قضيتهم. كما ساهم في توسيع نطاق الفاعلين المعنيين بالقضية، من خلال إدماج قوى إقليمية أخرى في مسارات التوافق الدولي لإنهاء الاحتلال. ولم تقتصر هذه الاستجابة على النطاق العربي والإسلامي، بل شملت قوى دولية من خارجه، كما يظهر في موقف جنوب إفريقيا التي تقدمت بدعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. وهي خطوة يصعب فصلها عن عودة مصر إلى عمقها الإفريقي، واستعادة نفوذها القاري خلال السنوات الماضية.
ومنهج الشراكة، الذي تقوده الدولة المصرية، في إدارة علاقاتها الدولية، يبدو مختلفا تماما عن نهج التحالفات، في إطار كونه يستبعد مفهوم "الدولة القائد"، والذي تقوم عليه أدبيات الدبلوماسية الدولية، في إطار التحالفات منذ حقبة الحروب العالمية، وما بعدها.
فالتحالفات، بصورتها التقليدية، اعتمدت شروطا صارمة، للانضمام إليها، أبرزها تبني رؤى متطابقة، تجاه القضايا الدولية، بينما يبقى تحديد هذه الرؤى، بمثابة المهمة الرئيسية لقيادة التحالف، وهو ما يبدو على سبيل المثال، في المعسكر الغربي، حيث يفرض الانضمام إليه شروطا، أبرزها الالتزام بالنماذج المعلبة التي يقدمها الغرب، بقيادة أمريكية، في إطار الديمقراطية وحقوق الإنسان، في حين يبقى الالتزام بـ"الثوابت" السياسية بمثابة "فرض عين"، ومنها بالطبع تقديم الدعم المطلق إلى إسرائيل، على حساب الحق الفلسطيني، وهو الأمر الذي ساهم في تعقيد القضية، جنبا إلى جنب مع الأوضاع الإقليمية الصعبة، وبالتالي تعثرها في العديد من مراحلها.
غياب مفهوم "الدولة القائد"، كما تبنته الدبلوماسية المصرية، في عصر "الجمهورية الجديدة"، يعكس عقيدة راسخة، تقوم في الأساس على ضرورة انهاء الانقسام البيني في الداخل الإقليمي، عبر تعزيز المصالح المشتركة، وهو ما يعني اعتماد سياسة "الند بالند"، مما يساهم في تخفيف حدة الخلافات، من جانب، بالإضافة إلى كونها وسيلة لتعزيز ودعم الدور الذي تقوم به كافة القوى الأخرى، من أجل حل القضايا الجوهرية في منطقتنا، وعلى رأسها قضية فلسطين، مما يعزز الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يشهدها العالم، مع عودة الصراعات المباشرة إلى الواجهة مجددا.
تعزيز مفهوم "الشراكة" في واقع الأمر لا يعني استئثارا مطلقا بالدور، وإنما التحرك المتوازي المتوازن القائم على التوافقات، بين القوى المؤثرة إقليميا ودوليا، وهو ما نجح بالفعل في تحقيق العديد من الانتصارات الدبلوماسية في الأشهر الماضية، على غرار اعترافات قوى أوروبية بالدولة الفلسطينية، ناهيك عن تغيير الخطاب الغربي نفسه تجاه الاعتداءات، وهو ما بدا في البيان الأخير الصادر عما يقرب من 30 دولة، معظمهم من أعضاء حلف الناتو، للتأكيد على ضرورة وقف إطلاق النار، وهو ما يضفي شرعية كبيرة على الجهود التي تبذلها مصر وشركائها الإقليميين، لتحقيق هذا الهدف بأسرع وقت ممكن.
ولعل النجاح الذي حققته الرؤية المصرية إقليميا أو دوليا، قد استلهمته من دورها التاريخي، في قيادة عقلانية، سواء للقضية الفلسطينية، أو حتى العديد من القضايا الأخرى، سواء ما تتعلق بالتنمية، والتي تعد أحد أهم محاور الشراكة التي تبنتها القاهرة في إدارة علاقاتها مع شركائها الإقليميين، أو الأمن، في إطار الحرب على الإرهاب، وهو ما ساهم في تعزيز الجهود التي بذلتها قوى إقليمية ودولية أخرى، واجهت نفس الخطر في السنوات الماضية، وهو ما أضفى قدرا كبيرا من الثقة في رؤيتها، منذ اليوم الأول للحرب في غزة، عندما استجاب عدد كبير من القوى الدولية المؤثرة لرؤيتها، بل وتحولت مواقف الكثير منهم، نحو إدانة الاحتلال وانتهاكاته، بعدما كانت تتذرع له بـ"الحق في الدفاع عن نفسه".
وهنا يمكننا القول بأن شرعية الدور المصري ونجاعته لا يمكن الجدال حوله بأي حال من الأحوال، فالقاهرة لم تتحرك فقط بمجرد اندلاع الأزمة، وإنما استبقتها عبر إرساء دبلوماسية يمكن لجميع أطراف المعادلة الإقليمية العمل بها ومن خلالها عند اندلاع الأزمات، وهو ما بدا في بروز أدوار العديد من القوى الأخرى، سواء داخل الإقليم، أو حتى خارجه، لتحقيق انتصارات ملموسة ليس فقط فيما يتعلق بغزة، وإنما لصالح القضية بأسرها، وهو ما يمثل إنجازا غير مسبوق، يحسب للقاهرة، وكذلك لشركائها الإقليميين والدوليين، الذين طالما أبدوا مرونة كبيرة في التجاوب مع الرؤى المصرية، مما أعاد فلسطين وقضيتها، وليس غزة، كما خطط بنيامين نتنياهو وحكومته، إلى صدارة الأجندة الدولية، على اعتبار أن الحل لكل الأزمات الإقليمية يكمن في إنهاء الاحتلال وتعزيز الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين.