المشهد الإيراني الإسرائيلي الأخير، والذي انتهى باتفاق هش لوقف إطلاق النار، يعيد فتح العديد من الأسئلة حول مستقبل الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط، في لحظة تشهد تحولات جذرية في طبيعة العداء بين قوتين غير عربيتين، تتنافسان منذ سنوات على مقعد القيادة في إقليم مضطرب ومفتوح على كل أنواع النزاع، من الصراع العربي الإسرائيلي، إلى انهيار مفهوم الدولة الوطنية، وانفجار الميليشيات واللاعبين من غير الدول. والمفارقة أن التنافس بين إيران وإسرائيل لم ينبع فقط من عداء صريح، بل تأسّس أيضًا على مصلحة متبادلة في البقاء كطرفين "خارج" التركيبة السكانية والسياسية العربية، بل وكسندين أمريكيين متوازيين في لحظات مختلفة. كلا الطرفين، وإن تقاطعا في الخطاب العدائي، إلا أن وجود الآخر ظل يمثل مبررًا لإعادة إنتاج شرعيتهما الأيديولوجية - دينية في الحالتين - لكن بوجهين مختلفين، فالأول (إيران) يقوم على ولاية دينية حاكمة، والثاني (إسرائيل) يوظف الدين كأصل تاريخي وقومي للشرعية والسيادة
لكن الهجمات الأخيرة المتبادلة بين تل أبيب وطهران، مرورًا بالدخول الأمريكي المباشر على خط التوتر، واستهداف القاعدة الأمريكية في قطر، تمثل كلها لحظة مفصلية، ليس فقط في علاقة القوتين ببعضهما، بل في تركيب المشهد الإقليمي كله. هذه المواجهة اندلعت في ظل حرب متعددة الجبهات تخوضها حكومة نتنياهو: في غزة ضد الفصائل الفلسطينية، في الجنوب اللبناني ضد حزب الله، وفي اليمن ضد الحوثيين، وكلها أطراف تنتمي لمنظومة النفوذ الإيراني، وبالرغم من أن هذه الحروب أضعفت بعض هذه الأذرع إداريًا وعسكريًا، فإنها لم تنجح في القضاء عليها، وكشفت، في الوقت نفسه، محدودية قدرة إيران على حماية من تعتبرهم امتدادًا لها، وهو ما يبدو في مقتل إسماعيل هنية داخل طهران، في قلب المعقل الأمني للحرس الثوري، مما يمثل ضربة معنوية بالغة، ترجمت هشاشة الداخل الإيراني في لحظة يُفترض أنها ذروة "التحدي السيادي".
أما الدخول الأمريكي فقد كشف مجددًا حقيقة تاريخية، مفادها أن إسرائيل لا تنتصر بمفردها، فمنذ تأسيسها، ظلت رهينة للدعم الأمريكي سياسيًا وعسكريًا، ولم تعرف يومًا حسمًا مستقلًا في معاركها الكبرى. وفي المقابل، تستمر إيران في تلقي الضربات داخل أراضيها، من اغتيال قيادات بارزة، إلى اختراق منشآتها النووية، دون قدرة واضحة على الرد الرادع أو حتى المنع الاستباقي.
هذا التوازي في الضعف بين الجانبين يقوّض فعليًا الرؤية الأمريكية القديمة التي حاولت، عبر فترات مختلفة، توزيع أدوار القيادة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، على طهران وتل أبيب، كلٍّ حسب الظرف والتوقيت.
فالاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما عام 2015، لم يكن فقط محاولة لكبح جماح المشروع الإيراني، بل كان أيضًا نوعًا من "التمكين المتبادل"، عبر منح طهران شرعية إقليمية مموّهة، على حساب مخاوف الجوار الخليجي، ولكن هذا المسار سرعان ما انهار مع صعود ترامب، الذي انسحب من الاتفاقية في 2018، وأعاد تموضع بلاده بجولة أولى له بعد التنصيب، شملت الرياض وتل أبيب معًا.
وبالنظر إلى التطورات الأخيرة، يظهر أن الإدارة الأمريكية الحالية، حين أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل للهجوم المباشر على إيران، كانت تراهن على نجاح إسرائيل في فرض نفسها كقوة إقليمية أولى، تتجاوز الدور الأمني التقليدي، إلى دور القيادة الجيوسياسية الكاملة، لكن الإخفاق الإسرائيلي في حسم المعركة، دفع واشنطن إلى الدخول المباشر، إدراكًا منها أن إطالة أمد الصراع لا يصب في صالح الحليف العبري، ولا في صالح صورة أمريكا كراعٍ عالمي لـ"الهيمنة الذكية"، القائمة على تعزيز "الأحادية المطلقة" التي تتوق لها الولايات المتحدة في المرحلة الحالية.
وهنا تظهر معضلة ترامب تحديدًا، فهو لا يؤمن، خلافًا لأسلافه، بفكرة "المنقذ الأمريكي" للحلفاء. بل هو من أكثر من انتقدوا الحروب التقليدية التي ورّطت فيها الإدارات السابقة الجيش الأمريكي، وكلفت واشنطن مليارات الدولارات وآلاف الأرواح، دون مردود استراتيجي حقيقي، لتقوم رؤيته على مبدأ "الوكالة الفاعلة"؛ أي أن الشريك الإقليمي الذي لا يستطيع فرض هيمنته بمفرده لا يستحق أن يُعوَّل عليه.
رغبة الولايات المتحدة في فرض إسرائيل كقوة مهيمنة على الشرق الأوسط لا تنفصل عن نهج أمريكي أوسع، يقوم على تصدير "وكلاء محليين" يتولون إدارة الإقليم باسم واشنطن، دون أن تضطر إلى الانخراط المباشر. وهو نهج يتجاوز المنطقة إلى العالم كله، حيث لا تسعى أمريكا إلى شراكات متكافئة، بل إلى وكلاء يتلقّون الأوامر ويطبقونها، دون مساءلة.
وهذا النمط ليس جديدًا، بل تكرّر في مناطق أخرى، كما فعلت إدارة ترامب الأولى حين حاولت فرض بريطانيا كقيادة قارية في أوروبا، رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي. واليوم، تتكرر المحاولة في الشرق الأوسط، عبر تمكين إسرائيل من أداء دور القيادة، رغم كونها كيانًا دخيلاً جغرافيًا وثقافيًا على المحيط العربي. وهي المحاولة التي، كما يبدو، لم تنجح حتى الآن، بالنظر إلى عجز إسرائيل عن تحقيق نصر حاسم في مواجهاتها المتعددة، واحتياجها الدائم للغطاء الأمريكي، سياسيًا وعسكريًا.
والمفارقة أن ما فعله أوباما قبل سنوات، حين حاول تمكين إيران كقوة قيادية على حساب الخليج، يتكرر الآن مع نتنياهو، وإن بوجه مختلف. والنتيجة في الحالتين واحدة: الفشل، وهذا الفشل يأتي من واشنطن قبل أن يكون من تل أبيب أو طهران، حيث يضعف المشروع الأمريكي في شكله "الترامبي" القائم على إعادة تعريف الهيمنة العالمية من خلال وكلاء أقوياء محليًا، لكنه يجد نفسه أمام مشهد لوكلاء هشّين، تساقطوا أو يكادون، عند مواجهة أية معارك صعبة أو وجودية.
وهنا يمكننا القول بأن، فشل إسرائيل في أداء هذا الدور، وترنّح إيران من الجهة الأخرى، يفتح الباب أمام المحيط العربي، ولأول مرة منذ سنوات، ليعيد طرح نفسه، لا كوكيل لطرف خارجي، بل كفاعل أصيل في إعادة تشكيل معادلات الإقليم شريطة ألا يتم الاكتفاء بلغة الشعارات، وإنما التحول إلى مشروع سياسي متماسك، يقوم على تنحية الخلافات، وبناء الشراكات، والانطلاق من القضية الفلسطينية باعتبارها معيار الموقف، لا مجرد ورقة تفاوض.