منذ النصف الثاني من القرن العشرين، لم يكن طموح إسرائيل مقتصرًا على البقاء كدولة حديثة النشأة، بل امتد إلى مشروع توسعي يستهدف إعادة تشكيل المشهد الجغرافي والسياسي للشرق الأوسط برمّته. لم تكن المسألة أمنًا حدوديًا أو ردعًا عسكريًا، بل مشروعًا استراتيجيًا عابرًا للزمن، يقوم على تفتيت البيئة العربية المحيطة إلى وحدات هشة طائفية وعرقية متصارعة، تسهِّل الهيمنة وتُبقي المركز الإسرائيلي في موقع التفوق الدائم.
هذه الرؤية تبلورت في وثيقة معروفة تُنسب إلى أوديد يينون، الموظف السابق بوزارة الخارجية الإسرائيلية، نُشرت عام 1982 ضمن دورية "كيفونيم". غير أن الوثيقة في جوهرها ليست نقطة انطلاق، بل محطة إقرار لمخطط بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي، كما كشف المفكر المعادي للصهيونية "إسرائيل شاحاك"، الذي أعاد نشر الوثيقة مُرفقة بتعليقات تُظهر عمق البنية الفكرية للمشروع الصهيوني.
من تفجيرات بغداد ضد الطائفة اليهودية في 1950، إلى عملية "سوزانا" أو فضيحة لافون في القاهرة عام 1954، وصولًا إلى خطة "أوميغا" التي استهدفت تحجيم نفوذ عبد الناصر... كلها لم تكن حوادث معزولة، بل فصول مبكرة من سردية تستهدف زعزعة استقرار النظم العربية القوية وإعداد المسرح لإعادة تقسيم المنطقة على أسس طائفية وهوياتية.
في قلب هذا المشروع، ظهرت مصر باعتبارها "الجائزة الكبرى" التي لا بد من تقويضها، ليس عبر الغزو المباشر، بل من خلال نخر بنيانها من الداخل. السيناريو المتداول في الوثيقة يطرح تفكيك مصر إلى كيانات مناطقية، من بينها كيان قِبطي في الجنوب، بما يعني نسف مركزية الدولة وتماسكها. وترافق ذلك مع إشارة واضحة إلى استخدام الضغوط الاقتصادية والحرب النفسية وأدوات التأزيم الاجتماعي، وهي أساليب تجددت بحدة بعد عام 2011، في ظل تفاقم الأزمات واستدعاء تيارات العنف المدعومة خارجيًا لزعزعة الاستقرار.
أما العراق، فقد قُدم كنموذج تطبيقي للتقسيم الناجح، وهو ما تأكد مع احتلاله عام 2003، حين فُرض عليه واقع ثلاثي: كردي شمالي، شيعي جنوبي، وسني وسطي. بينما طُرحت سوريا ولبنان كحالتين قابلتين للانزلاق نحو نزاعات طائفية متكررة، مدعومة بخطاب تقسيمي موجه.
الوثيقة تتعامل مع اتفاقيات السلام بوصفها أدوات مؤقتة، قابلة للنقض عند الضرورة. هذا ما يُفسر الاهتمام الإسرائيلي المتصاعد بسيناء، ومحاولات دائمة لإعادة إنتاج أجواء التوتر حولها، بالتوازي مع محاولات لخلق واقع جديد في غزة يدفع نحو تهجير الفلسطينيين جنوبًا، تمهيدًا لطرح ما يُعرف بـ"خيار الوطن البديل" في الأردن.
الأخطر من ذلك أن تنفيذ هذه الاستراتيجية تم بدعم صامت من بعض القوى الإقليمية والدولية التي رأت في تفكك العالم العربي فرصة لإعادة هندسة المنطقة وفق مصالحها، دون اكتراث بعواقب ذلك على شعوبها.
في مقابل هذا المخطط الطويل النفس، استطاعت مصر أن تحتفظ بتماسك نادر. ورغم ما مرت به من تحديات داخلية وضغوط خارجية، فإنها لم تنزلق إلى الفوضى، ولم تتنازل عن قرارها الوطني، ولم تسمح بتحويلها إلى ساحة صراع بالوكالة. على العكس، أعادت بناء منظومتها الدفاعية، وطورت قدراتها العسكرية، وثبتت مؤسساتها رغم الرياح العاتية.
ضمن مساعيها لإضعاف الجبهة الداخلية المصرية، سعت إسرائيل منذ عقود إلى ترسيخ مشاعر الدونية والانهزامية في نفوس المصريين، عبر حملات ممنهجة تهدف إلى تقزيم إنجازاتهم، والتشكيك في قدراتهم، والتقليل من قيمة انتصاراتهم التاريخية، وعلى رأسها نصر أكتوبر المجيد.
لم تكتفِ تلك المحاولات بالأدوات الإعلامية التقليدية، بل امتدت إلى منصات ثقافية وتعليمية وإعلامية مضادة، تبث سرديات مشوهة تُعيد قراءة الأحداث الكبرى من زاوية الإحباط والتشكيك. فكل انتصار يُقدَّم كـ"مصادفة سياسية"، وكل إنجاز يُنسَب إلى "تواطؤ دولي"، بهدف تقويض الثقة بالذات الوطنية، وخلق حالة من الشك المستمر تجاه مؤسسات الدولة وقدرتها على الإنجاز.
هذه الحرب النفسية تُعد أحد أذرع العبث بالوعي الجمعي، تمهيدًا لإضعاف المناعة الوطنية، وتسريب مفاهيم الانكسار والاستسلام كحقائق لا يمكن تجاوزها، وهو ما أدركته مصر مبكرًا، وواجهته عبر تعزيز الهوية، وتحصين الذاكرة الوطنية، وإعادة الاعتبار للرواية التاريخية المستندة إلى الحقائق لا الأوهام.
اليوم، تقف مصر على أرضية صلبة. ما تشهده من جاهزية قتالية، وانتشار استراتيجي للقوات، وتأمين شامل للمنافذ والحدود، ليس وليد أزمة مؤقتة، بل نتاج تخطيط استراتيجي طويل المدى، يرتكز إلى عقيدة أمنية تقول بوضوح: "الدولة لا تُساوم على سيادتها".
في ظل اشتداد الصراعات الإقليمية، وتزايد وتيرة التفكك في بعض الدول المجاورة، يبدو أن الرؤية المصرية كانت الأكثر وعيًا بتعقيدات المشهد، والأقدر على صياغة مسار مختلف. لم تراهن على الفوضى الخلّاقة، بل راهنت على القوة المنضبطة والقرار السيادي. ولهذا، تبقى مصر، رغم كل التحديات، حجر الزاوية في معادلة الاستقرار الإقليمي، وحائط الصد الأخير أمام مخططات التقسيم والتفكيك.
ولا سبيل للحفاظ على هذا التماسك إلا بالوعي الجماهيري، وصيانة الذاكرة الوطنية، واستباق الأزمات لا انتظارها. لأن المعركة الحقيقية لا تُحسم بالسلاح فقط، بل أيضًا بالبصيرة.