لورانس داريل "1912–1990" ليس مجرد روائى بريطانى لامع، بل هو "كاتب الأماكن" بامتياز، ذاك الذى جعل من المدن شخصيات حية تنبض فى نصوصه، ومن البحر الأبيض المتوسط بحيرة روحية يسكنها الحنين والتعدد والاغتراب.
وقد تجلّت هذه القدرة الفريدة فى عمله الأشهر "رباعية الإسكندرية"، الذى أعاد فيه ابتكار الرواية الحداثية من بوابة الشرق، ومن قلب مدينة الإسكندرية.
الإسكندرية: المدينة التى تحوّلت إلى أسطورة
وصل داريل إلى الإسكندرية عام 1942، فى خضم الحرب العالمية الثانية، ملحقًا صحفيًا فى السفارة البريطانية، لكن المدينة لم تكن له مجرد محطة عمل، بل كانت صدمة جمالية وحسية، مدينة تعيش في طبقات، حيث تتقاطع الحضارات وتتناسل اللغات وتتشابك الأديان والثقافات. كانت الإسكندرية في نظره مدينة "تُغوي وتُفسد، وتفتن وتدمّر"، وباتت ببطء تتحوّل إلى الخلفية الكبرى لرؤيته الأدبية للعالم.
الرباعية: إعادة كتابة الحكاية من زوايا متعددة
تتكوّن رباعية الإسكندرية من أربع روايات:
جستين "1957"، بالتازار "1958"، ماونت أوليف "1959"، وكليا "1960".
تدور جميعها حول مجموعة من الشخصيات المتداخلة، في قلب علاقة حب معقدة، وعن غيرهم من أبناء المدينة وعشاقها.
لكن عبقرية داريل لا تكمن في الحبكة وحدها، بل في الطريقة التي أعاد بها سرد نفس الأحداث من زوايا مختلفة، وبأصوات متعددة. فكل جزء من الرباعية لا يُكمل ما قبله، بل يعيد تأويله، وكأن الحقيقة نفسها متشظية لا تُدرك من منظور واحد. هذه التقنية المستلهمة من النسبية الفيزيائية لأينشتاين، جعلت من الرباعية واحدة من أعمدة الحداثة الأدبية، حيث تنهار الحدود بين الزمان والمكان، وبين الذات والآخر، وتصبح الرواية "مرآة مشروخة" للعالم.
الأسلوب واللغة والمكان
أسلوب داريل في الرباعية لغويّ كثيف شاعري فلسفي في العمق، إيروتيكي في السطح، لكنه دائمًا مشبع بروح البحر الأبيض المتوسط. فالإسكندرية عنده ليست مجرد مدينة، بل كائن أنثوي، مائع ومغوٍ، يلتفّ حول أعناق الرجال والنساء على السواء، ويقودهم نحو مصائرهم الغامضة.
وقد كتب داريل عن شخصيات من خلفيات متعددة، مما جعل الرواية تحتفي بالتعدد الثقافي والعرقي الذي ميّز الإسكندرية في النصف الأول من القرن العشرين. لكن هذا التعدد لم يكن جنة، بل كان مسرحًا للتوترات والتناقضات، والانهيارات.
المرأة في الرباعية: جستين والأنوثة الممزقة
"جستين"، أول روايات الرباعية، سُمّيت على اسم بطلتها اليهودية ذات الجمال الغامض، والروح المعذبة. ويُعتقد أنها مستوحاة من "إيف كوهين"، التي أصبحت لاحقًا زوجة داريل. لكن جستين ليست امرأة حقيقية بقدر ما هي رمز لأنوثة معذبة، لمدينة تنزف من الداخل، ولعالم لم يعد متماسكًا.
المرأة في الرباعية ليست كائنًا ساذجًا أو هامشيًا، بل هي قلب السرد، وصوت المدينة، ووجهها المعقّد، وتجلٍ لحب داريل الممزوج بالافتتان والغضب من الشرق.
التقدير والنقد
حين نُشرت الرباعية، قوبلت باحتفاء واسع، ووُصفت بأنها "أجرأ تجربة سردية في الأدب الإنجليزي بعد الحرب". لكن مع مرور الزمن، خفت بريق داريل في الغرب، واعتُبر أحيانًا كاتبًا متكلّفًا أو نخبويًا، رغم أن رواياته ما زالت تُقرأ بشغف في الشرق، خاصة في مصر واليونان وقبرص.
وقد أعاد مايكل هاج، المؤرخ البريطاني، الاعتبار له عبر سيرته الجديدة "لاري: سيرة ذاتية جديدة للورانس داريل"، التي كشفت عن جانب خفي من شخصية داريل: المزيج بين العبقرية والعنف، السحر والتعالي، والقدرة المدهشة على تصوير المكان، لا كجغرافيا بل كقدر.
رباعية الإسكندرية ليست رواية عن مدينة فقط، بل عن الإنسان في زمن الانهيارات، وعن الحب كقوة هدم وبناء، وعن الحقيقة ككذبة جميلة تُروى بأكثر من صوت.
أما داريل، فهو أحد الذين فهموا أن المدن، حين تُكتب جيدًا، تتحوّل إلى أبطال تسرق الأضواء من البشر.
في زمن ينسى فيه كثيرون عباقرة الأمكنة، تبقى الإسكندرية – كما كتبها داريل – حيّة، تتكلم، تحب، وتدفعنا إلى التأمل... والعودة.