من قبل أن يخفت عويل الثكالى وتجف ملايين المآقى على شهيدات "لقمة العيش" بمحافظة المنوفية وهن يوارَيْن الثرى فى مشهد يذيب قلب الحجر، انطلقت بعض الفضائيات فى مبارزات صاخبة تقود كل منها هجوماً شرساً على من تراه من المسئولين وفق قناعتها، وكان الغريب فى المشهد أن اللوم قد طال كبار المسئولين وقيادات شعبية ومنفذى أعمال.. بينما لم تنل ضراوة الهجوم سائق الشاحنة بوصفه الفاعل الأصلى المرتكب للواقعة، حتى كاد أن يُدْخَل فى روع العامة أنه اضطر إلى ارتكاب الواقعة اضطرارا.
وقد تشير مفردات الحادث إلى وجود عيوب فنية وإنشائية بالطريق توجب التحقيق مع المسئولين عنها، إلا أن هذه العيوب التى لازمت الطريق أكثر من عامٍ، قد مرت عليها بسلام مئات الآلاف من المركبات بما لا يمكن اعتبارها السبب فى وقوع الحادث، وإن كان وجودها يزيد من احتمالات وقوع مثل هذه الحوادث أو يغرى بوقوعها.
وكان حريا بهذه الفضائيات أن تغلّب الموضوعية على الرغبة فى الهجوم الشخصى الذى مارسته سواء بقصد تحقيق المشاهدات أو للمكايدة السياسية، خاصة وأن الأمر لم يقتصر على الحديث عن بعض أوجه القصور الفنى والإدارى فحسب... وإنما وسم كبار المسئولين بالإهمال لعدم المبادرة بتقديم العزاء، وكان ذلك على نحو استعدائى لأهالى الضحايا -وهم فى أوج أحزانهم- على الحكومة ورجالاتها.
وأرى أنه من الموضوعية أن يكون اللوم على قدر الجرم، وأن يعلم المواطنون أن قائدى المركبات من ذوى الرعونة واللامبالاة هم القاسم المشترك فى كل كوارث الطرق وحوادثها اليومية، والتى فاقت أعداد ضحاياها فى عدة سنوات ما تكبدته البلاد من ضحايا بالحروب التى خاضتها، وقد جاءت الغالبية العظمى لهذه الحوادث بأكبر الطرق اتساعاً وأتقنها إنشاءً وبأخطاء فردية مريعة يلفها الإهمال وتجللها الرعونة.
من أجل ذلك أظل مشفقاً فى مثل هذه الحوادث على جهات التحقيق، منذ تلقى الشرطة للبلاغ والانتقال والتحفظ على موقع الحادث وضبط المتهمين، وانتقال النيابة العامة وإجراء المعاينات ومطالعة التقارير والتصريح بالدفن... إلى آخر سلسلة طويلة من الإجراءات، وحين تشرع النيابة العامة فى إحالة القضية إلى المحكمة يجد المحقق نفسه مقيداً بنص القانون أن يوجه للمتهم تهمة القتل "الخطأ" ليصبح المتهم الذى أودى بحياة عشرات الأبرياء مجرد مرتكب لواقعة يصفها القانون بأنها "جنحة"، لينضم هذا المتهم إلى زمرة مرتكبى الجنح، مثله مثل من بدد قائمة منقولات زوجية أو ألقى ببعض القمامة فى عرض الطريق.
إننا بحاجة ماسة إلى تدخل تشريعى يستحدث التكييف الملائم والعقوبات المناسبة للجرائم ذات الآثار الجسيمة، والتى تقع على الحدود الفاصلة ما بين الخطأ والعمد، والتى تسميها بعض مدارس الفقه القانونى بـ"شبيه العمد"، ويمكن أن يواجه ذلك بالاعتراض بحجة أن قائد المركبة بالفعل لم يقصد القتل ... نعم إنه لم يقصد النتيجة، ولكنه قاد مركبته دون حصوله على رخصة بذلك أو قادها فى حالة فنية متهالكة أو مارس تهوراً أو رعونة أو لم يحترم قواعد المرور مما أفضى إلى وقوع الحادث وإزهاق روح الأبرياء فهل يعد ذلك خطأ لمجرد أنه لم يقصد النتيجة؟!
الأمر الذى يستلزم من المشرع إقرار قصد جنائى افتراضى إزاء هذه الوقائع، ورسم صور متكاملة لما يمكن وصفه بـ "حالات القيادة الخطرة" ليلحقها بالجنايات ويقرر لها عقوبة السجن بدلاً من الحبس، ويقرر لها عقوبات تبعية تصل إلى المنع المطلق من القيادة.
كما نرى أن يستحدث المشرع نظام "العود" بالجرائم المرورية على غرار "العود" الوارد بقانون العقوبات لا سيما أن مرتكبى الجرائم المرورية بدوافع الرعونة والتهور واللامبالاة، لا يركنون غالباً إلى التوبة ولا يقلعون عن سلوكهم.
إن تحقيق الردع العام بالمجتمع هو من أهم غايات المشرع ومقاصده ولا مناص من تحقيقه إلا بتقرير عقوبات تلائم الجرم وتشفى الصدور وتحسب للخطأ قدرَه وللخطيئةِ قدرَها.