أثار حصول الكاتب محمد سمير ندا على الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" حالة من الجدل، فهو الكاتب الذى لم يهتم كثيرا بالشهرة أو الاندماج فى الوسط الثقافى وعمل فى صمت تام، لم يتوقع أحد أن جائزة البوكر التى لم تمنح سوى لبهاء طاهر ويوسف زيدان من الكتاب المصريين، وحرمت منها مصر من بعد 2009، ستعود برواية كاتبها (ليس غاويا للشهرة) ولم يكتب الكثير من الروايات ويعمل بعيدا عن المجال الثقافي، وظل السؤال الأهم: من هو محمد سمير ندا؟
بدأت رحلتى فى التعرف على الكاتب من خلال الأدب الذى قدمه، وكان السؤال: ماذا كتب محمد سمير ندا بخلاف الرواية الحاصلة على البوكر "صلاة القلق"؟ إنه كاتب لديه ثلاث تجارب فى عالم الأدب، الرواية الأولى مملكة مليكة، والثانية بوح الجدران والأخيرة هى صلاة القلق، صرح فى أحد المقابلات بأنه لا ينصح بقراءة مملكة مليكة فإنها لم تكن سوى تجربة أولى للكتابة وبها العديد من الأخطاء، أما عن بوح الجدران فهى الرواية التى تحدث فيها عن جانب كبير عانى منه والده سمير ندا الاعلامى والكاتب الذى لم يأخذ حقه وواجه الكثير من العقبات فى حياته وكانت تتناول فترة حكم السادات، أما الأخيرة فهى صلاة القلق التى تتحدث عن فترة النكسة وتتزامن مع الزعيم جمال عبدالناصر، من هنا كانت قراءتى لمحمد سمير ندا.
محمد سمير ندا وأميرة شحاتة
تنعكس أنواع مختلفة من الوهم عند قراءة رواية "صلاة القلق"، منها ما يتعلق بالسلطة والتدين، وحتى كتابة الرواية نفسها تلعب على وعى القارئ بالأحداث ما بين الوهم والحقيقة، حيث يضيف بطريقة سحرية فى نهاية الرواية، بعد أن يكشف عن عدم السلامة العقلية للرواى وتزييف الحقائق، اسم الطبيب فى نهاية التقرير الطبى وهو "سعدون زكريا" الذى شارك فى أحداث الرواية فى نجع المناسى وهو ما يجعلك تائها فى حقيقة الرواى والأحداث حتى مع آخر كلمة للرواية، ومع قراءة "بوح الجدران" نجد نوعا آخر من الوهم هو الذى يسيطر على الإنسان عندما يريد النجاة رغم كل الظروف المحيطة، فتجده يوهم نفسه بأن القشة ستنجيه من الغرق ولكنها لم تكن فى الواقع لتنجيه، ويتجلى الوهم بشكل كبير فى كتاباته.
معضلة ناصر أم السادات
لم يكن هناك اختلاف كبير بين بوح الجدران وصلاة القلق فيما يخص مدح شخصية وذم أخرى، نحن دائما ما نجد العديد من الكتاب ينقسمون حول مناصرة الرئيس السابق أنور السادات والرئيس السابق جمال عبد الناصر، لكن فى حقيقة الأمر لم يكن محمد سمير ندا كذلك، بل كان كاتبا ذا رؤية نقدية لفترة ما أو أفعال بعينها مهما كان الشخص ، ولم يتبن إيدولوجية ضد الأخرى ولم يعظم شخصا بعينه، وهنا كان جانب الموضوعية فى كتابات محمد سمير ندا دون انحياز لأشخاص كرمز تعبيرى لإيدولوجية معينة.
محمد سمير ندا يوقع روايته بوح الجدران
وعندما التقيته أثناء استضافة ملتقى اليوم السابع للثقافة والفنون بدأ مناقشته وهو يقول لم أرَ الأمور من عين منتقدى صلاة القلق، فأنا لا استهدف إيدلوجية معينة ولا انتصر لناصر أو السادات، وكأننا "أهلى وزمالك"، وهو ما عبرت عنه رواياته، فهذا الكاتب يتحدث عن أفعال معينة من خلال رواياته لكنه لا يحرض على كره أو رفض تام لشخص وذلك يتجلى فى مشهد موت السادات في روايته بوح الجدران، ورفض شخصية الرواية الفرح بشأن خبر كذلك حتى مع اختلافه الشديد مع السادات وخروجه من بلده مضطرا، إلا أنه عندما تم اغتياله نظر له أنه رئيس مصر بعيدا عن الخلافات وتجلت مشاعر الوطنية والاحترام والإنسانية بدلا من العداء لشخصه.
لم يعتد القراء على أفكار مثل التى تبناها محمد سمير ندا، لا يمكنهم حسابه على أى من الفريقين، السادات أم ناصر وهذه معضلة كبيرة لأن العديد يصنفون الأعمال الأدبية وفقا لانحيازاتهم وتفضيلاتهم الفكرية والسياسية، وهو الأمر الذى لم يقدمه محمد سمير ندا وإن بدا العكس، حتى فى "صلاة القلق" كان تارة يتحدث عن النكسة وخداع الشعب وتارة يعود ليقول هذا التمثال الذى يتوسط النجع لم يكن لجمال عبد الناصر، هو لا يعطى موقفا واضحا تجاه شخص بل ينتقد فعل بعينه أو مجموعة من الأفعال.
أزمة العشر سنوات وما حدث فيها من انتصارات حرب أكتوبر
تدور أحداث رواية (صلاة القلق) من النكسة وحتى عشر سنوات تنتهى بتمرد على الأوضاع، وهو ما جعل القراء يتساءلون هل تجاهل الكاتب حرب أكتوبر التى حدثت خلال هذه الفترة، ولكن خلال مناقشتها اختصر الكاتب الأمر فى إجابة بسيطة وهى أنه تخيل لو أن النكسة لم نعرف عنها بعد وقت قصير من إعلان النصر وظلت لسنوات، ظل هذا الوهم الجمعى لسنوات ماذا كان قد يحدث؟
ربما أنهى الكاتب العشر سنوات بتمرد واختلاف مع رمز السلطة فى الرواية ليكون رمزية عن تاريخ اتفاقية كامب ديفيد والاختلافات حولها، وهذا الحدث كتب عنه صراحة فى روايته بوح الجدران، ولكن هذا الاختلاف حول الاتفاقية كان ليس شخصيا فى ذلك الوقت بل يعبر عن هذه الفترة من وجهة نظر الكاتب.
وعلى أى حال لا يمكن أن يتم محاكمة كاتب على خياله وإصدار أحكام، نحن أمام نص أدبى وليس كتابا فى التاريخ، وتحدث سمير عن هذا الأمر وقال: "للأسف من ينتقدونى بعضهم لا يقرأ الرواية"، اعتقد أن هؤلاء لا يعطوا لأنفسهم مساحة لتقبل الأدب بل أعطوا الأولوية للتوجهات وهو ما نتج عنه هذا الهجوم، وكأننا نعود مرة أخرى بالتاريخ لفوز الأديب نجيب محفوظ بنوبل وقول البعض بأنها بسبب رمزية أولاد حارتنا التى كاد أن يموت بسببها لنفس الموقف، وهو أنهم حاسبوا الكاتب على خياله ولم يستطيعوا أن يتحكموا فى معتقداتهم الجامدة.
أميرة شحاتة
لأول مرة.. كاتب ينشر نقدا لأدبه داخل روايته
عند الوصول لنهاية الرواية تجد نقدا كاملا للنص على صورة تقرير طبى يكتبه الطبيب النفسى عن ما كتبه المريض، فى هذه اللحظة تجد معظم تعليقاتك وانتقاداتك للنص مكتوبة بمنتهى الشفافية وتتعجب من أن ينشر كاتب نقدا لأدبه داخل روايته، فى البداية تظن أنه نقد ذاتى بعد أن شارف على الانتهاء من الرواية وكأنه يقدم رؤيته الخاصة لما قد يقوله الآخرون عن عمله على لسان أحد شخصيات روايته وهو الطبيب، ولكن بمحاورة الكاتب وجدت أن الحقيقة ليست كذلك، بل إن الكاتب لجأ إلى طبيب حقيقى ليكتب تقريره عن شخصية الرواى فى القصة، وكان هذا ما كتبه الطبيب الذى لم يكتف بوصف شخصية الراوى داخل الرواية بل تطرق إلى طريقة الكتابة وأسلوب السرد وقدم نقدا أدبيا بجانب الرأى النفسى لأبعاد الشخصية المذكورة "حكيم".
نحن أمام كاتب لم يخش أن تحتوى روايته على نقد يخص لغته وطريقته فى السرد، حتى أنه عندما سألته عن عبارة تقولها مستورة أم لثلاثة أبناء يقررون التطوع فى الحرب من أجل الخروج من النجع، عند وداع أبنائها، مخففة عن زوجها أنه "لا تقلق إذا تأخروا عن العودة فيمكننى انجاب المزيد لم ينقطع حيضى بعد" وقد تكون تعبيرا أو رمزية عن أن مصر ولادة حتى وإن ضحى أبناؤها من أجلها، ولكنها كانت قاسية جدا من أم فى مشهد توديع ابنائها، رد سريعا دون اللجوء لهذا التفسير الخاص بالرمزية أو غيره وقال "معك حق ربما بالغت بعض الشىء وأنا أكتب"، كان هذا الموقف به من الجرأة الأدبية وتقبل النقد ما لم نقابله فى كتاب كثر خاصة فى وضع ما بعد الفوز بجائزة مهمة مثل البوكر.
تشوش الصورة النمطية للكاتب
ربما احتوى هذا التقرير على العديد من الإجابات عن سؤال: لماذا تعرض محمد سمير ندا لحملة الانتقادات، ولكن النقطة التى يمكن تسليط الضوء عليها هى الصورة النمطية للكاتب، التى لا تتوافق مع الحاصل على البوكر.
دائما ما تكون الصورة النمطية للكاتب هى أنه يعمل فى المجال الثقافى ويقضى بعض الوقت مع المثقفين والكتاب، يتواجد فى الساحة الأدبية، لكن هل يمكن أن يكون الأديب مواطن عادى، يذهب لعمله فى مجال السياحة البعيد عن الوسط الثقافى ولا يتحدث مثل المثقفين بقوالب منمقة ولا يحضر الفعاليات ويكون الشلة الخاصة به، ويحاول ان يسمح لبعض الوقت من أجل الكتابة وسط دوره التقليدى كأب ورب أسرة، هذا ما كان عليه محمد سمير ندا.
يحكى الكاتب عن لحظة فوزه التى لم يتوقعها، يحضر الحفل وهو لا يحضر كلمة عند إعلان النتيجة لأنه يتوقع أنها محسومة لغيره، لم تكن له "شلة" تمدحه ولا رفقاء ينتظرونه، كان لديه إيمان ابنه الصغير الذى قال له بكل ثقة ستعود بالجائزة يا أبى هو الذى شاركه فرحته أكثر من أى شخص، وكأنهم يورثون الإيمان والحب فى هذا البيت، فبعد أن تأثر محمد سمير ندا بسيرة والده وحياته تأثر ابنه بنفس الطريقة بأبيه، فعاش الأب والابن نفس الاغتراب ولكن الحياة كانت أكثر عطاء لمحمد سمير ندا.
أميرة