لم تكن ثورة 30 يونيو 2013 مجرد انتفاضة شعبية لإزاحة حكم جماعة سياسية، بل كانت دفاعًا شاملًا عن جوهر مصر وهويتها الممتدة في عمق التاريخ، في لحظة استشعر فيها المصريون أن هويتهم الثقافية والدينية والحضارية باتت مهددة، خرجوا بالملايين، لا فقط لاستعادة القرار السياسي، بل لإنقاذ روح مصر التي حاول البعض اختزالها في توجه أيديولوجي ضيق، لا يرى في هذا الوطن سوى نسخة باهتة من ذاته.
وفى ثورة 30 يونيو، دافع المصريون عن الشخصية الوسطية الجامعة، التي تمثل تاريخهم الممتد من الفراعنة إلى الأقباط، ومن الحضارة الإسلامية إلى مصر الحديثة، وهو ما جعل من 30 يونيو معركة حقيقية لحماية الهوية المصرية.
الهوية المصرية.. نسيج حضاري معقد
الهوية المصرية ليست مجرد انتماء وطني، بل نسيج حضاري معقد، تشكل عبر آلاف السنين، هي هوية مصرية قديمة في الأصل، عربية في اللسان، إسلامية وقبطية في الروح، إفريقية في الامتداد، ومتوسطية في التفاعل، ورغم تنوع مكوناتها، بقيت الهوية المصرية ذات طابع وسطي متسامح، يميل إلى العقلانية، ويؤمن بالتعدد والاعتدال.
لكن خلال عام حكم جماعة الإخوان، تعرضت هذه الهوية لمحاولة "تفريغ" وتغيير ممنهج، إذ برز خطاب إقصائي، لا يعترف بتاريخ مصر القديم، ويشكك في الرموز الوطنية، ويروج لفكر منغلق يقصي الفن والثقافة، ويعيد تشكيل مفاهيم المجتمع وفقًا لتصور معتقدات لا معنى لها.
الثقافة تحت الحصار.. والمثقفون في المواجهة
شهد الوسط الثقافي في تلك الفترة محاولات مستمرة للتضييق على الحريات الفكرية والفنية، حيث أُغلقت قاعات، وتعرض فنانون ومفكرون للهجوم، وتم تشويه رموز من أمثال طه حسين ونجيب محفوظ، بزعم أنهم يمثلون "انحرافًا فكريًا" عن الهوية الدينية كما تراها الجماعة.
كما سعت الجماعة لتعديل المناهج التعليمية، بحذف محتويات تخص الحضارة المصرية القديمة، أو تحجيم الفنون التشكيلية والموسيقية من المدارس ودار الأوبرا المصرية.
ومع 30 يونيو، عاد المثقفون إلى المشهد، دفاعًا عن دورهم في بناء الوعي، وبدأت مرحلة جديدة من استعادة الدولة لوزنها الثقافي، عبر دعم المهرجانات، ومبادرات توثيق التراث، وإحياء رموز الهوية الفكرية والفنية، من خلال اعتصام المثقفين داخل وزارة الثقافة، حيث احتج المثقفون على الطريقة التى أدارت بها جماعة الإخوان ملف الثقافة قبل ثورة 30 يونيو، فأقاموا احتجاجًا حاشدًا على القرارات التى اتخذها الوزير الإخوانى "علاء عبدالعزيز" الذى سعى لتغذية مفاصل وزارة الثقافة بأبناء الجماعة، وسعى في طريق مواز إلى استبعاد الفنانين والكتاب أصحاب التاريخ العريض من أي منظومة ثقافية، فـأقصى الدكتور أحمد مجاهد من هيئة الكتاب والدكتورة إيناس عبدالدايم من الأوبرا.
كانت أعداد المثقفين تتزايد أمام بوابة وزارة الثقافة، وحينما علم الوزير الإخوانى بما حدث، لم يعد إلى مكتبه حتى للقاء المثقفين بداخلها، بل أعلن عن احتلالها، ليرد عليه بهاء طاهر بأن اعتصام المثقفين لا يعبر عن أشخاص بعينهم أو جهة أو فصيل أو حزب، لكنه يعبر عن المثقفين كافة، الذين يرون أن مصر تعانى من سيطرة فاشية، تحاول صبغ الثقافة المصرية بصبغة يقال إنها إسلامية، فى حين أن الثقافة الإسلامية بعيدة كل البعد عنهم؛ لأنها غنية بمعالمهما وتفاصيلها، خاصة أن الشعب المصرى متدين بالفطرة، وأن المثقفين لم يمنعوا أحدا من دخول الثقافة بما فيهم الوزير الإخوانى نفسه.وعلى مدار 45 يوما استمر اعتصام المثقفين داخل وخارج وزارة الثقافة، وبدلا من المطالبة بإقالة وزير الثقافة الإخوانى من منصبه، طالبوا بالإطاحة بحكم جماعة الإخوان الإرهابية، وحينها شهد الاعتصام انضمام العديد من المواطنين المصريين الخائفين على هوية وطنهم، والرافضين لحكم الإخوان، وظل الاعتصام مستمرا حتى 30 يونيو 2013، ولم يصبح الاعتصام لإقالة وزير ثقافة الإخوان بل تحول لثورة ضد حكم الإخوان فى مصر، استطاع المثقفون خلالها إنارة طريق الحق أمام الشعب المصرى لوقفتهم لأول مرة يدا واحدة لمحاربة التطرف والإرهاب.
الإعلام والفن.. استعادة الصوت الوطني
وقبل 30 يونيو، كانت هناك مساع واضحة للسيطرة على الإعلام وتطويعه لخدمة مشروع الجماعة، وتمت ملاحقة عدد من الإعلاميين، وإغلاق برامج، وممارسة ضغوط على القنوات والصحف، بهدف تغيير المحتوى العام لصالح توجهات محددة.
بعد الثورة، استعاد الإعلام المصري حيويته، وبرزت أعمال درامية ووثائقية تروي تاريخ البلاد، وتعيد الاعتبار لرموزها الوطنية.
وقد شهدنا أعمالًا تعيد تقديم قصص بطولية من الجيش والشرطة، وأخرى تحتفي بالحضارة المصرية القديمة، والرموز الدينية المتسامحة، في تجسيد حي للهوية المصرية المتعددة.
الأزهر والكنيسة.. حراس الوسطية الوطنية
كان موقف الأزهر الشريف والكنيسة محوريًا في ثورة 30 يونيو، إذ رفض الأزهر محاولات تسليح الدين لخدمة أجندة سياسية، وأكد مرارًا على ثوابت الوسطية والانفتاح، ورفض فكر التكفير والإقصاء.
كما دعمت الكنيسة، نداء الشعب، ورفضت الرضوخ لمحاولات تقويض الدولة، لنجد هذا التكاتف بين المؤسستين الدينيتين عزز من فكرة الوحدة الوطنية بوصفها جزءًا أصيلًا من الهوية المصرية، لا مجرد شعار سياسي.
التراث والآثار.. حماية الذاكرة من النسيان
في خضم الانفلات الأمني خلال عام 2013، تعرضت مواقع أثرية عدة للنهب، وأُحرق بعضها، مثل المجمع العلمي المصري، وسرقة المتحف المصرى بالتحرير وملوى بالمنيا على سبيل المثال، لكن ما بعد 30 يونيو شهد حملة وطنية واسعة لاسترداد الآثار المسروقة، وتدشين مشروعات ضخمة مثل المتحف المصري الكبير، وترميم المواقع الأثرية في القاهرة والإسكندرية والأقصر.
وعادت مصر القديمة إلى الواجهة لا بوصفها ماض منسي، بل هوية راسخة تفخر بها الدولة وتعيد توظيفها في خطابها الثقافي والاقتصادي والسياحي.
الهوية في خطاب الجمهورية الجديدة
ورأينا بعد ذلك ما قامت به الدولة عندنا أعادت بعد 30 يونيو الاعتبار للهوية المصرية في السياسات العامة، حيث تم إطلاق مبادرات مثل "الهوية البصرية" للمدن، و"حياة كريمة" لإحياء الريف بروح مصرية أصيلة.
كما وضعت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان و"رؤية مصر 2030" الإنسان في قلب عملية التنمية، مع تركيز على ترسيخ القيم المصرية الجامعة في التعليم والإعلام والإدارة.
30 يونيو لم تكن فقط ثورة على حكم جماعة، بل على محاولة تشويه الذات الوطنية، ولقد استعاد المصريون في هذه الثورة ليس فقط دولتهم، بل روحهم، تصدوا لمن أرادوا اختزال هويتهم في فكر لا يخرج من عنق الزجاجة، واستردوا حقهم في التنوع، والاعتدال، والاعتزاز بتاريخهم، واليوم، في كل مدينة جديدة تبنى، وفي كل كتاب يطبع، وفي كل مدرسة، تتردد أصداء تلك الثورة بأن "مصر هي مصر.. ولن تكون إلا مصر."