نحن لا نحب الماضي كما كان، بل كما نتذكره، نُحبّه لأنه ابتعد، لأنه لم يعُد قادرًا على إيذائنا، لأنه صار مجرد صورة بالأبيض والأسود نُجمّلها كما نشاء، نقول "أيام زمان كانت أحلى" ونحن ننسى كم بكينا فيها، كم خُذلنا، كم تكدّس من الخوف والقلق خلف أبوابها.
الماضي حين يمضي، يفقد أنيابه، يتحول إلى ذاكرة ناعمة، لا تُؤلم بالقدر نفسه، نُفتّش فيه عن لحظة صفاء، عن ابتسامة عابرة، عن أغنية كنا نسمعها ونحن نحبّ لأول مرة أو نحلم دون حساب، نُقشّر الأيام، نأخذ منها ما يُريح القلب، ونترك ما عكّره، كأنّ الذاكرة شاشة تحرير لا تسجل إلا ما يروقنا.
لكن لو عاد الماضي؟ لو عاد بما فيه، لا بما اخترنا أن نتذكّره؟ لو عاد بالمواصلات التي لا تصل، وبالخبز الذي لم يكن يكفي، وبالبيت الذي لا يتّسع، وبالمجتمع الذي يُخفي ما لا يُقال؟ ربما نكره كل ما فيه، وربما نشتاق من جديد للحاضر الذي نشتكي منه الآن.
الحنين لا علاقة له بالدقة، هو شعور خادع، يُجمّل الفقر ويغسل الألم ويعطر الوحدة، الحنين يزوّر، ويُعدّل على مزاج القلب لا على منطق العقل، ولذلك حين نقول "الزمن الجميل"، نحن لا نصف الحقيقة، بل نصف إحساسًا مجرّدًا من السياق.
المفارقة العجيبة أن الحاضر الذي نعيشه الآن، هو الماضي الذي سيتغزّل فيه أولادنا لاحقًا، سيقولون عن أيامنا هذه إنها كانت بسيطة، وإننا كنا محظوظين! وسنضحك وقتها بحزن، كما نضحك الآن على من قال إن ماضينا كان "أجمل مما ينبغي".
الماضي ليس بريئًا، بل هو مَدين لنا بالكثير من التعب، لكنه غادر، فغفرنا له، نُحبّه فقط لأنه لم يعد، ولأن الحاضر يرهقنا، والمستقبل يُقلقنا، فنهرب إليه لأنه لا يُطالبنا بشيء.
أحيانًا نشتاق للماضي لأن الحاضر لا يُطاق، لكن الحقيقة الأصدق أن ما نحتاجه ليس العودة إليه، بل أن نصنع حاضرًا يليق بالحنين إليه يومًا ما.
أن نعيش هذه اللحظة بقوة، حتى لا نُضطر لاحقًا لتزوير الذاكرة كي نجد فيها ما يواسي القلب.
ربما نحب الماضي لأنه ذهب، لكن لو عاد، ربما نُدرك أنه لم يكن جميلًا، بل فقط كان قديمًا.