محمد أيمن

دروس الردع والسيادة فى اللحظة الحرجة.. من عبقرية القرار إلى هندسة الدولة

السبت، 21 يونيو 2025 12:33 م


في السادس من أكتوبر عام 1981، لم تكن الطلقات التي أنهت حياة الرئيس أنور السادات مجرد فعل اغتيال سياسي، بل كانت نهاية مرحلة استثنائية في مسار الشرق الأوسط. رجل استثنائي بعقل سياسي سبق زمانه، قرأ الواقع بمنظور يتجاوز التقاليد السياسية السائدة، وفكك تعقيدات الصراع الإقليمي بنظرة استراتيجية فذة. السادات لم يكن مجرد قائد، بل مهندس سياسات قلب موازين القوة، ووضع الدولة المصرية على مسار مختلف.

امتلك السادات القدرة على استشراف المنعطفات الجيوسياسية الكبرى، وسعى إلى تحرير القرار المصري من أسر الشعارات والانفعالات. لم يكن السلام الذي سعى إليه مع إسرائيل تنازلاً، بل مناورة استراتيجية هدفت إلى تقويض البنية الصراعية التقليدية، واستبدالها بمعادلة توازن جديد، تعترف فيها القوى الدولية بدور مصر المحوري. لقد قرأ البنية الدولية بدقة، وارتكز إلى أن الصراع العربي-الإسرائيلي لا يُفهم خارج شبكة المصالح الكونية المعقدة. ومن هذا المنظور، كان توجهه نحو الولايات المتحدة مناورة براغماتية وليست خضوعًا، لكن بموته لم تكتمل فكرته ولم تنفذ خطته بالكامل.

في قلب هذا التحول، كان السادات يؤسس لمنهج في الواقعية السياسية. أدرك أن الحروب لا يمكن أن تظل الأداة الوحيدة في السياسة الخارجية، وأن معادلة الردع لا تكتمل إلا حين يُستثمر النصر العسكري في مكاسب دبلوماسية. بهذه الرؤية، لم يكن ذهابه إلى القدس فعلًا انفراديًا، بل استثمارًا جريئًا للحظة قوة، أعاد من خلاله تعريف موقع مصر في النظام الإقليمي والدولي.

لكن عبقرية السادات لم تكن كافية وحدها لحمل المشروع. غُيّب الرجل، وظلت المنطقة عالقة في دوامة من الاستقطاب، والعجز عن إنتاج نموذج سياسي قادر على تجاوز الحتميات التاريخية. لم تتعلم الأنظمة الإقليمية الدرس؛ بقيت أسيرة انفعالاتها، غارقة في صراعات استنزفت مواردها، وعاجزة عن بناء أدوات القوة المستدامة.

وفي زمن تعيد فيه الجغرافيا السياسية تشكيل نفسها، تقف بعض اللحظات التاريخية كاختبارات حاسمة للقادة. كان إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال ولايته الأولى، بأن لمصر الحق في استخدام القوة تجاه سد النهضة، يُقرأ للبعض كدعم حازم، لكنه في حقيقته كان فخًا دبلوماسيًا مُتقنًا يذكرنا بحادثة وقعت قبل ثلاثة عقود، حين التقط صدام حسين إشارات غامضة من السفيرة الأمريكية ببغداد، قبل اجتياح الكويت. فكان أن حوصرت العراق، وضُرب جيشها، وتبددت قوة عربية كانت تُحسب في موازين المنطقة.

ما حاول ترامب فعله مع القاهرة، لم يكن إلا تكرارًا لتلك اللعبة القديمة؛ الإيحاء بشرعية التحرك العسكري، ثم الانقلاب على نتائجه سياسيًا ودوليًا. لكن القيادة المصرية، بقراءتها العميقة للمشهد، رفضت الانزلاق نحو سيناريو استنزاف يُراد له أن يستهلك مصر من الداخل، وبدلاً من ذلك، اختارت بناء معادلة ردع تجعل أي تهديد مباشر من الجانب الإثيوبي أو غيره محفوفًا بكلفة استراتيجية لا تُحتمل.

القلق المشروع من سلوك إثيوبيا، التي لم تفتح بوابات السد رغم امتلاء البحيرة واقتراب موسم الفيضان، يتجاوز الحسابات المصرية إلى مصير ملايين البشر على ضفاف النيل الأزرق في السودان، حيث قد يُفضي انهيار السد - في حال لم يُفرغ جزئيًا - إلى موجة دمار تُغرق مدنًا بأكملها. لكن الدولة المصرية، وعلى عكس خصومها، لم تُراهن على الانفعال، بل على التخطيط طويل الأمد، عبر منظومة هندسية وهيدرولوجية قادرة على امتصاص صدمة الفيضان، وتخزين كميات تفوق تلك الموجودة خلف السد.

إن ما يُحسب لمصر في هذا السياق ليس فقط قدرتها على الرد، بل قدرتها على الامتناع عنه في الوقت الخطأ. فالقوة ليست مجرد ضربة سريعة، بل معادلة توازن تُبنى على الوعي بطبيعة الخصم، وتحولات الإقليم، وتعقيدات المشهد الدولي.

وكما فعل الرئيس السادات ذات مرة، حين تحدّى ثوابت اللحظة عبر قراءة جيواستراتيجية تخالف المألوف، اختار الرئيس عبد الفتاح السيسي ألا يكرر خطأ الاستجابة لدعوة الحرب متى كانت تخدم مصلحة الخصم. ففي السياسة، لا يكون الردع بصوت مرتفع، بل بحسابات دقيقة. وكما أنور السادات، الذي خاطب الكنيست لا لأنه سلّم، بل لأنه أراد فرض معادلة أمن جديدة، اختارت مصر أن تُظهر قوتها في صمت، وأن تُفهم خصومها دون ضجيج.

الواقعية السياسية التي اتسمت بها التجربة المصرية في هذا الملف هي امتداد لعقلية جديدة تتجاوز المزايدات وتُفضّل التوقيت المحسوب على الاستجابة الانفعالية. هذه ليست سياسة تردد، بل سياسة ضبط النفس المدروس، حيث تُدار المعارك في الظل، وتُحسم في صمت، وتُحفظ الكرامة الوطنية بلا عنتريات.

في هذا الإقليم المملوء بالفخاخ، لم يكن القرار الأسهل هو الأفضل، بل القرار الأكثر نضجًا هو ما يحفظ الدولة، ويصون الدم، ويحقق الردع. هكذا تنجو الأمم. وهكذا تُكتب فصول السيادة في كتاب الجغرافيا السياسية من جديد.

ومع تحولات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وجدت مصر نفسها أمام اختبار جديد للسيادة. الفوضى الإقليمية، تصاعد الحروب بالوكالة، وانهيار الحدود التقليدية، فرضت على الدولة المصرية إعادة صياغة بنيتها الدفاعية والاستراتيجية. لم يكن الردع ترفًا، بل ضرورة وجودية.

انطلقت عملية بناء عسكري شاملة، لم تقتصر على التسلح، بل شملت هندسة كاملة للجاهزية. من مقاتلات الجيل الرابع متعددة المهام، إلى المنظومات البحرية المتقدمة، بُنيت القدرات الدفاعية على قاعدة التنويع، بما يحصن القرار الوطني من الارتهان لمحاور بعينها. لم تكن حاملة المروحيات "ميسترال" أو الغواصات الألمانية مجرّد أصول عسكرية، بل رموز لتموضع استراتيجي يعكس استقلالية القرار.

ومن تحت رمال الشرق، بزغ "الأوكتاجون"، المقر الأحدث لقيادة الدولة العسكرية، ليرمز إلى رؤية لا ترى في الدفاع مجرد استجابة للتهديد، بل بنية حوكمة متقدمة. هناك، تُدار الأزمات، وتُجمع معطيات القرار في لحظة، بما يعكس انتقال الدولة من رد الفعل إلى إدارة المعادلة.

وفي السياق ذاته، كانت القواعد العسكرية الممتدة من محمد نجيب إلى البرنيس، ليست مجرد مراكز تمركز، بل خريطة لهيكلة النفوذ، وإعادة ضبط حدود المجال الحيوي. لم تعد حدود الدولة خطوطًا صامتة، بل نقاط اشتباك استراتيجية قابلة للتفعيل.

وعلى الجبهة الغربية، لم تكن ليبيا ملفًا معزولًا، بل اختبارًا لحيوية هذا التموضع. عندما أعلنت القاهرة خط "سرت – الجفرة" كخط أحمر، كانت تُعلن ولادة عقيدة جديدة: أن الأمن القومي المصري لا يُحمى فقط من الداخل، بل من خارج الحدود أيضًا، وأن الردع يبدأ من رسم حدود الاشتباك، لا من انتظار الخطر.

هذا التوجه لم يكن وليد لحظة. إنه امتداد لرؤية تُكرّس مفهوم الدولة الشاملة، التي تُدير الأمن، والغذاء، والبنية التحتية، بوصفها أدوات سيادة. من العاصمة الإدارية إلى مشروعات الأمن الغذائي العملاقة، من مشروعات النقل الحديثة إلى الشبكات اللوجستية، كانت السيادة تُكتب بالحجر والحديد، لا بالتصريحات.

وفي المشهد العالمي، جاء انضمام مصر إلى تكتلات مثل "بريكس"، تأكيدًا على انتقالها من موقع المتلقي إلى الشريك الفاعل. لم تعد القاهرة تتلقى المعونات، بل تصوغ تحالفاتها على أساس المصالح المشتركة، وتفرض إيقاعها على طاولة القرار الدولي.

هكذا، يُعاد تشكيل الدولة المصرية، لا بالضجيج، بل بالفعل الهادئ، المستند إلى رؤية عميقة. من السادات إلى السيسي، خطٌ استراتيجي لم ينقطع، بل تجدد بأدوات العصر. وبين الاثنين، ظلت الفكرة واحدة: أن تبقى مصر في قلب الإقليم، قادرة على فرض معادلاتها، وصناعة مستقبلها دون وصاية أو تبعية.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب