في مثل هذا اليوم 21 يونيو من عام 1929، وُلد في قرية الحلوات بمحافظة الشرقية، صبى لم يكن يدرك حينها أحد أن صوته سيصبح يومًا صوت العاطفة في الوطن العربي، وأن اسمه سيظل محفورًا في ذاكرة الغناء العربي كأيقونة لا تتكرر، هو عبد الحليم إسماعيل شبانة والذى عرف فيما بعد بالعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.
لكن البداية، لم تكن وردية، بل كانت صادمة، بل قاسية بما يكفي لتحطم أي موهبة شابة، ففي الإسكندرية، حيث صعد "عبد الحليم" لأول مرة ليقدم أغنيته الجديدة "صافيني مرة"، لم يجد تصفيقًا ولا إعجابًا، بل وجد جمهورًا يصرخ في وجهه: "انزل! انزل! انزل!".

كانت تلك اللحظة كما قال "عبد الحليم" لاحقًا كفيلة بتحطيم روحه بالكامل، وجعلته يعاني عذابًا نفسيًا كاد يقضي على كل حلم غنائي في قلبه.
ويحكي عبد الحليم عن تلك الليلة: "مرت أيام طويلة وأنا أحاول أن أنسى ما حدث لي في الإسكندرية.. كانت صدمة كبيرة، لا يعلم هؤلاء الذين صرخوا في وجهي مدى العذاب الذي عانيت منه بعد تلك الحملة."
لكن الموجي وكمال الطويل لم يتركاه وحده، جلسا معه، شجعاه، أعاداه إلى حقيقة واضحة: العيب لم يكن في الأغنية، ولا في الكلمات، ولا في اللحن، العيب كان فقط في الناس الذين لم يعتادوا هذا التجديد بعد.
ويذكر الكاتب محمد جبريل في كتابه "ملامح مصرية" أن عبد الحليم لم يستسلم أبدًا، وقال ذات مرة: "إذا جاءتني فرصة أخرى للغناء أمام الجمهور، لن أرفضها، وسأقدم صافيني مرة 37 مرة أخرى لن أستسلم للفشل"، وهكذا كانت حفلة الإسكندرية الثانية، تلك التي غيرت مسار عبد الحليم إلى الأبد.
قبل تلك الحفلة، جاء متعهد الحفلات صديق أحمد لعبد الحليم حافظ، يعرض عليه المشاركة في حفلات المسرح القومي بالإسكندرية.
كان يتوقع أن يغني عبد الحليم أغان قديمة لـمحمد عبد الوهاب، لكن الشاب الجديد أصر: "سأغني ألحاني، من ألحان كمال الطويل ومحمد الموجي"، كما جاء بقلم الكاتب الكبير سعيد الشحات خلال سلسلته "ذات يوم" المنشورة على صحيفة "اليوم السابع".

وقف عبد الحليم على المسرح، غنّى من قلبه، لكن الجمهور رفض، صرخ، تمرد.. مرة أخرى، فجاءه المتعهد، وطلب منه تغيير برنامجه والغناء لعبد الوهاب. بدا الأمر كـ"جميل" لا يُرفض، لكنه كان جميلًا قاتلًا كما وصفه حليم.
فعل شيئًا لم يفعله كثيرون أعاد للمتعهد العربون، خمسة جنيهات كانت كل ما يملك، ثم همس في أذن تحية كاريوكا طالبًا سلفة، فأخرجت له خمسة جنيهات بصمت، وأهدته ما يشبه دفعة الحياة الثانية.

بعد تلك الليلة، لم يعد عبد الحليم مجرد مغن شاب، بل أصبح رمزًا للإصرار، للفن الذي لا يستسلم، للنغمة التي لا تُقارن، فتحية كاريوكا التي وقفت بجواره لم تكن فقط داعمة، بل غضبت من المتعهد وتركته، لتؤكد له أن الفن الحقيقي لا يُشترى.
ومن تلك الخيبات، ووسط بقايا صدمة، خرج عبد الحليم أقوى، أصلب، عازمًا على ألا يكون نسخة من أحد، بل أن يكون هو نفسه، ولقد كانت أغنية "صافيني مرة" بداية شاقة، مليئة بالرفض، لكنها أيضًا كانت المفتاح الذي فتح بوابة المجد لصوت لن ينسى.
واليوم، وبعد عقود من رحيله، لا تزال أغانيه تنبض في الشوارع والمقاهي والقلوب، من كان يطلب منه أن ينزل عن المسرح، صار فوق يعشق صوته الجميل.