في بهوٍ ضاق بملل انتظار الأهالي والأفراد، جلسوا كأنّهم في طابور مؤجل اختزاله لحين يصل الشخص المنشود، وعيون تتفحص مستنداتهم التي تترقب لمسته الأبرز لإنجازها، لا توقيع مدير، ولا ختم مسؤول تنفيذي، بل تنتظر شيئًا أهم من ذلك كلّه، ألا وهو قدوم "الباش كاتب".
هيبة القلم وسحر التوقيع..
"الباش كاتب" سيد اللحظة والفصل
ذاك الرجل الغامض الذي إذا دخل، سكت الهمس، وانضبط الوقت، وانحنت أمامه الملفات طوعًا! هو ليس حامل أختام، ولا من أصحاب المكاتب المذهبة، ولكنه صاحب الكلمة الفصل، و”النفَس" الذي تُبعث به الحياة في الأوراق الجامدة.
كل من بالمكان يدرك جيدًا أن ساعة الإنجاز لا تدق إلا حين يخطو "الباش كاتب" إلى مكتبه، ويحرك قلمه كما لو كان عصا سحرية ترسم المصير!
حين تغيّرت البنية.. وتوارى الباش كاتب خلف ستار التطور
هكذا كان الحال الذي طال كل المصالح والدواوين خلال النصف الأول من القرن العشرين، حيث كان "الباش كاتب" هو رئيس الكتبة، وكانت تتضمن مهامه العديد من الأمور الحيوية أبرزها التنسيق بين الكتبة وتدريبهم والإشراف على تحرير المراسلات وتوثيق المعاملات وفي بعض الأحيان كانت لديه أدوار تحكيمية وشبه قضائية، وكان يلزم أن يكون صاحب هذه الوظيفة يتميز بالثقافة الواسعة وإتقان اللغة والكتابة الرسمية، ودوره يمثل مقام الرجل الثاني في أي كيان.
ولعل الجميع يعلم أن وظيفة "الباش كاتب" اندثرت تدريجيًا تزامنًا مع تطور نظم الإدارة بدء من النصف الثاني من القرن العشرين، رجوعًا لتطور المستويين الهيكلي واللوجيستي، وربما يظن البعض أن تلك الوظيفة ذهبت بلا رجعة، ولن يشاهد أحد هذا الرجل مطلقًا سوى في الأفلام الكلاسيكية القديمة، ولكن يبدو أن التطور الرقمي وعصر ثورة الذكاء الاصطناعي لهما رأي آخر.
الثورة الرقمية تُعيد الروح.. الذكاء الاصطناعي يُنقّب عن العباقرة المنسيين
بالطبع المقصود ليس أن يعود "الباش كاتب" بذات النمط القديم، ولكن يبدو وفق الواقع الذي نعيشه، وعلى الرغم من أن كافة التوقعات تشير إلى اندثار مئات الوظائف التي سيحل مكانها الذكاء الاصطناعي، إلا أن المهنة التي ستكون أكثر شيوعًا في كافة المجالات ستتفق مع صفات "الباش كاتب"، خاصةً أن كافة نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي تعتمد على صياغة الأوامر، ويشترط أن يكون الكاتب محترفًا حتى يظهر المنتج نموذجيًا.
في الزمن الجميل، كان “الباش كاتب” هو العقل المدبّر داخل المؤسسات والدوائر الحكومية، ليس فقط مجرّد كاتب يجيد الخط ويُتقن الصياغة، بل كان مركز التنسيق، وربما "العقل الثاني" للمدير. يُجيد فهم التعليمات وتدوينها بلغة دقيقة، ويُحوّل الأفكار إلى خطابات وأوامر تُحرّك الدولة، وتُنظّم شؤون الناس، واليوم في عالم الذكاء الاصطناعي المتسارع، يعود هذا الدور إلى الواجهة وهو "كاتب الأوامر" - أو كما يطلق عليه محرر الـPrompts.
الكاتب الجديد.. محرر الأوامر الذي يهمس للخوارزميات
كاتب الـPrompts هو الشخص الذي يُجيد التفاعل مع نماذج الذكاء الاصطناعي كمثل: (ChatGPT، Midjourney، Claude، وGeminai، وغيرها) من خلال أوامر كتابية دقيقة، تسمّى "Prompts"، مهمته تشبه إلى حدٍ كبير مهمة “الباش كاتب” القديم، ولكن بدلًا من تدوين الخطابات الرسمية، يُكتب اليوم سيناريوهات ذكية، أوامر برمجية، تصاميم فنية، وأبحاث علمية كاملة، من خلال جمل مختارة بعناية تُخاطب ذكاءً غير بشري.
تمامًا كما كان “الباش كاتب” يحتاج إلى الدقة، الذكاء، وفهم السياق الإداري والسياسي، فإن كاتب الأوامر اليوم يجب أن يتحلى بمهارات دقيقة لا تقل أهمية، أبرزها: "القدرة على فهم نماذج الذكاء الاصطناعي وكيفية استجابتها وتوقع أخطائها، فضلًا عن صياغة اللغة باحتراف للحصول على نتيجة مثالية وإجابات نموذجية بعيدة عن السطحية.
حرفة الكلمة ودهاء المعنى.. مفاتيح عالم الذكاء الاصطناعي بيد الكاتب
أيضًا يجب أن يكون كاتب الـPrompts كاتبًا مُتمكنًا، يعرف الفرق بين التوجيه والتوصيف، وبين التلميح والتصريح، كما يكتب أفكارًا مُنظمة تساعد الذكاء الاصطناعي على "رؤية" ما يطلبه بوضوح، دون لبس أو تشويش، بالإضافة إلى القدرة على التجريب والتحسين فليست النتيجة الأولى هي دائمًا الأفضل. لذلك، يجب أن يكون الكاتب قادرًا على إعادة الصياغة والتجريب، مثلما كان الباش كاتب يُراجع الخطاب مرة تلو الأخرى قبل تقديمه للتوقيع.
ولاشك أن الاحترافية المهنية مطلوبة، فيجب على كاتب البرومبت، أن يكون متقن للمجال المتخصص لإدارج الأوامر فيه للذكاء الاصطناعي سواء كان برمجة، أو قانون، أو تصميم، أو صناعة، أو محاسبة، تمامًا كما كان الباش كاتب يفهم ملفات الضرائب إذا كان يعمل في المالية، أو قوانين العمل إذا كان في الموارد البشرية.
"السلطة تغيّرت والكاتب واحد".. المهارة هي البوصلة
في كل عصر، يظهر من يُجيد مخاطبة السلطة، قديمًا كانت السلطة بشرية، واليوم وغدًا هي خوارزمية. وكما كان الباش كاتب ضرورة لا غنى عنها، فإن كاتب الـPrompts هو اليوم البوصلة التي توجه الذكاء الاصطناعي نحو ما نريده نحن البشر.
ربما ظنت البشرية أن وظيفة "الباش كاتب" دفنت للأبد، ولكن الذكاء الاصطناعي أحياها بالفعل في ثوب جديد، حتى وإذ تعددت أسماء تلك الوظيفة وفق مجريات العصر وحسب تصنيف المجال الذي تدرج ضمنه ووفق الأدوات التي يعمل عليها المهني.

الباش كاتب في عصر الذكاء الاصطناعي
مقالات سابقة للكاتب حول الذكاء الاصطناعى..
ما لم تراه في الصورة.. هو من يلتقطها
ثورة الذكاء الاصطناعى| بعد إطلاق "Veo 3".. أنت اللاعب أم اللعبة؟
عصر الفوضى الرقمية.. هل يصبح الذكاء الاصطناعي سيد العالم؟
من محاولات طمس الهوية إلى البيع بعقد رسمى.. كيف يستولى الذكاء الاصطناعي عليك؟