تاريخ التراسل بين الشعر العربي، وغير العربي، من جهة، والفنون المتنوعة، من جهة ثانية.. تاريخ قديم ومتجدّد.
شهد الشعر، وشهدت الكتابات عنه، خلال فترات متعددة، تجارب إبداعية واجتهادات نقدية جسّدت نزوعا متّصلا إلى استعادة "الوحدة الأولى" للحواس البشرية، التي توازي "وحدة الكون" كله، وفي الوحدتين لم يكن هناك انفصال بين العالم المادي والعالم الروحي، ولم تكن هناك مسافة قائمة بين المرئي وغير المرئي، أو المسموع وغير المسموع، أو بين المشموم وغير المشموم، أو بين الملموس وغير الملموس، ولا بين ما يدرك بالسمع وما يدرك بالبصر وما يدرك بالكلام.
هكذا، في هذه الوجهة، عبر تاريخ ممتدّ، كانت كل عناصر الإدراك والحسّ تتداخل في الشعر، وكان الشعر يستوعب كل عناصر الإدراك والحسّ: اللون، والشكل، والعبق، والصوت، والكلمات. وهكذا، كانت ظواهر الطبيعة، بكل من فيها وبكل ما فيها، تنصهر، ثم تتبلور، في لغة الشعر: صوراً وصياغات يصعب إرجاعها إلى عناصرها الأوّلية، كما يصعب ردّها إلى حاسة واحدة أو إلى إدراك واحدة. وهكذا أيضاً، في ميراث الكتابة عن الشعر وحوله، تمّ الانتباه إلى، ثم التوقف عند، ظواهر مثل "تراسل الحواسّ"؛ حيث تتبادل حواس الإنسان أدوارها، أو تتداخل، أو تنداح الحدود فيما بينها، فيتحول الملموس إلى عطر، وتصير الأصوات المسموعة صورا بصرية، ويصبح المشهد المرئي، بألوانه المتعددة، نغمات مسموعة.
في التجربتين، تجربة الإبداع الشعري وتجربة استكشاف أبعاده والكتابة عنه، كان الانطلاق من ذلك السعي الإنساني، الفطريّ، إلى احتواء ما ليس قابلا للاحتواء؛ في الذات وفي العالم من حولها، معا؛ في مناطق "اللاوعي" الضبابية وفي مناطق "الوعي" أو مناطق العقل الواضحة الناصعة جميعا. وأيضا، في التجربتين، كان هناك ذلك الاتساع، وتلك الرحابة، في كتابة الشعر وفي الكتابة عنه، وبالطبع في تلقّيه. ومع هذا الاتساع وهذه الرحابة كان الإنسان، شاعرا وناقدا ومتلقيا للشعر، ينزع دائما إلى استرجاع تلك الوحدة الوثيقة، الأولى، القديمة الغابرة، التي نظّمت علاقته بالعالم، وصاغت علاقة العالم به، فيما قبل الانفصال بين ما هو متلاحم، أو فيما قبل انقسام الدور الأكبر الواحد إلى أدوار متعددة؛ حيث لم تكن، في تلك الوحدة الوثيقة القديمة، المسافة قد تكرّست وترسّخت بين "الإنسان والحيوان والنبات والحجر"- بتعبير إرنست فيشر القديم الذي لا يزال صالحاً للتأمل حتى الآن.
***
خلال تاريخ الإبداع، ومنه الشعر، التمست الحواس الإنسانية تمثيلات لها في أنواع الإبداع المتعددة. ارتبط الأدب، ظاهريا، بالكلمات التي بدأ تلقّيها شفاهة، بالسماع، ثم في فترات لاحقة كان تلقيها بصريا بالقراءة. واتصلت الموسيقى، طبعا، بحاسة الأذن، واقترن الرسم بالألوان التي تخاطب العين.. وهكذا. ولكن كان من بين الفنون أيضا ما يجاوز الاقتصار على حاسة واحدة، سواء في صياغة هذا الفن أو في تلقيه، وطبعا كان المسرح، في زمن مبكر (ثم كانت السينما بعد تاريخ لاحق) من الفنون التي تنطلق من، وتخاطب، أكثر من حاسة للإنسان، بصره وسمعه، على الأقل.
لكن، مع هذه الاقترانات الظاهرية بين أنواع إبداعية بعينها وحواس إنسانية بعينها، بما يعني قدرا من خصوصية أو استقلال كل نوع أدبي أو إبداعي، ظل دائما ذلك النزوع القديم نفسه، للبحث عن الاكتمال الأول ولاستعادة الوحدة الوثيقة الغابرة الأولى؛ فكان كل نوع إبداعي، ومن ذلك الشعر، يتخطى اقترانه بحاسة واحدة، وتنهض بعض صياغاته على نوع من "التراسل" (وقريبا من معنى "التراسل" مفردات أخرى متاخمة: "التماسّ"، "التداخل"، "التبادل"، "الترافق"، "التشابك"، "التوافق").
وفي تجارب الشعر العربي القديم، رغم ما يلوح من اقتصاره على حدود الغنائية البسيطة التي تنهض على صوت مفرد واحد، كانت هناك (كما نعرف جميعا) قصائد كثيرة تنزع نزوعا حواريا يجاوز هذا الصوت الواحد إلى الأصوات المتعددة، وكان هناك احتفاء بلغة السرد لاح في كثير من القصائد، كما اقترب بعض القصائد من المتكآت الأساسية التي ينهض عليها فن التشكيل أو الرسم.. والتمثيلات على هذا كلّه أكثر مما يمكن إحصاؤها، ولكن يمكن تقديم تمثيلات واضحة لها.
***
في العصر الحديث، كانت هناك ملامح جديدة لتغيرات شتى شهدها العالم كله، وتأثّر بها بدرجات متفاوتة. وكان من هذه الملامح صعود أو انتشار علاقات "مدينية" جديدة، تراجعت فيها الثقافة السمعية، الشفوية، القديمة، لصالح صعود ثقافة بصرية كانت، وظلت دائما،جزءاً من المعاني التي لازمت مجتمعات المدينة.
وكان أيضا، من ملامح العصر الحديث، استحداث فنون ارتبطت باختراعات جديدة، وكانت السينما من أهم هذه الفنون.
وقد كان من الطبيعي، مع هذه الملامح الجديدة، أن يتفاعل الشعر العربي مع ما حوله من المتغيرات، وأن يتأثر بما يجاوره، وأحيانا بما يزاحمه أو ينافسه، من فنون مستحدثة، وأن يفيد منها، أو من بعضها، وأن يوظفها ضمن إمكانات تعبيره المتاحة المعروفة.