تبدأ قصة البارون إمبان، المليونير البلجيكى الذى أصبح مصريا بالهوى والانتماء، عند وصوله إلى ميناء السويس قادما من الهند فى أحد أيام شهر يناير من عام 1904م، هناك سقط فى غرام الشرق، وتحديدا فى غرام مصر، أم الدنيا، ومن السويس، انتقل البارون إلى القاهرة، وكان هدف زيارته فى ذلك الحين، إلى جانب التعرف على بلد لم يره من قبل، تقديم عرض لإنشاء خط سكة حديد يربط بين مدينتى المنصورة والمطرية بمحافظة الدقهلية شرق الدلتا.
ورغم أن شركته لم تفز بعطاء تنفيذ المشروع - إذ رست المناقصة على شركة إنجليزية - فإن البارون لم يرحل عن مصر، بل قرر أن يمضى فيها بقية حياته، وكان طبيعيا لمن اتخذ مثل هذا القرار أن يبحث له عن مقر إقامة دائم فى البلد الذى أحبه، ولكن الغريب فى الأمر أن البارون اختار موقعا صحراويا بالقرب من القاهرة ليكون نواة لحلمه العمرانى.
فى عام 1905، خلال حكم الخديو عباس حلمى الثانى، عرض البارون إمبان على الحكومة المصرية فكرة إنشاء ضاحية جديدة شرق القاهرة، فى قلب الصحراء، وأطلق عليها اسم «هليوبوليس»، أى «مدينة الشمس»، وقد خصصت له الحكومة آنذاك نحو 6000 فدان لتنفيذ مشروعه، وجرى شراء الفدان بجنيه واحد فقط، لأن المنطقة كانت خالية تماما من أى مرافق أو مواصلات أو خدمات.
بدأ البارون إمبان بالفعل تنفيذ مشروعه، وفى عام 1906 افتتح أولى مشروعاته فى الضاحية الجديدة، ولكى يتمكن من جذب السكان إلى هذه الضاحية الوليدة، وبموجب اتفاقه مع الحكومة المصرية، قام بإنشاء خط مترو ظل يعمل حتى وقت قريب، وأُطلق عليه اسم «مترو مصر الجديدة»، وقد كلف المهندس البلجيكى أندريه برشلو، الذى كان يعمل آنذاك فى شركة مترو باريس، بإنشاء خط مترو يربط الضاحية الجديدة بوسط القاهرة.
وفى عام 1910، تم تنفيذ خط المترو، ومن الطرائف المرتبطة بهذه المرحلة أن نهاية خط المترو القادم من وسط القاهرة مرورا بميدان روكسى كانت عند شارع بغداد، فى الموقع المعروف الآن بميدان الكوربة، وكان المترو يدور عند هذه النقطة ليبدأ رحلة العودة إلى وسط القاهرة. وكان الكمسارى البلجيكى يصيح بالفرنسية «لا كورب» La Courbe أى «المنحني» أو «الدوران»، ومن هنا جاءت تسمية الميدان بـ«الكوربة».
بدأ البارون بعد ذلك فى إقامة المنازل داخل الضاحية الجديدة، واختار لها طرازا كلاسيكيا بلجيكيا، وأضاف إليها مساحات خضراء وحدائق غنّاء، وتميز المخطط العام لضاحية مصر الجديدة بشوارعها العريضة التى تصطف على جانبيها منازل لا يتجاوز ارتفاعها 4 طوابق، وتفصل مداخلها عن الشارع ممرات مزروعة بالحدائق على الجانبين.
ومن الشوارع المميزة فى الحى شارع السباق، الذى تتميز مبانيه بالطراز المعمارى السويسرى والبلجيكى، مع لمسات من فن العمارة الإسلامية، كذلك شارع العروبة، الذى يشتهر بوجود فيلات مكونة من طابقين فقط، ذات واجهات بيضاء، تحيط بها حدائق أنيقة.
ومن أبرز شوارع الضاحية أيضا شارع الأهرام وشارع إبراهيم اللقانى، اللذان يتميزان بوجود محلات تجارية راقية تحت البواكى، وهو طراز معمارى فريد يميز هذين الشارعين، ويختتم شارع الأهرام نهايته بكنيسة «البازيليك» الشهيرة، التى بُنيت بين عامى 1911 و1913، وصُممت على طراز كنيسة «آيا صوفيا» الشهيرة فى إسطنبول بتركيا.
ولأن الحلم لا يكتمل بلا خضرة، شُيدت فى عام 1949 حديقة «الميريلاند» التى أصبحت لاحقا واحدة من أكبر وأجمل الحدائق العامة فى العاصمة.
ولم تغب الثقافة والعلم عن الضاحية، فقد أُنشئت مكتبة كبيرة لهواة القراءة، إلى جانب وجود مجمع محاكم، ومستشفيات كبرى، ومدارس مرموقة بمراحلها المختلفة. وكأن المدينة صُممت لتكون حياة كاملة، وليست مجرد مكان للسكن.
وكانت ذروة فخر الضاحية هو الفندق الفخم الذى شيده البارون «فندق هليوبوليس القديم»، والذى لم يكن مجرد فندق، بل كان تحفة معمارية ومركزا لأهم الزوار ورجال السياسة والمال فى العالم. وافتُتح هذا الفندق يوم 1 ديسمبر 1910 بتصميمات البلجيكى أرنست جاسبار.
عاصر الفندق الحربين العالميتين، وشهد على لحظات مفصلية من التاريخ، وأقام فيه زوار من طراز خاص «المليونير الأمريكى ميلتون هيرشى، والاقتصادى الشهير جون بيربونت مورجان، والملك البلجيكى ألبرت الأول وزوجته الملكة إليزابيث».
ومع دخول مصر حقبة جديدة فى عهد الرئيس أنور السادات، تحوّل الفندق إلى ما عُرف وقتها باسم «قصر الاتحادية»، مقرا لاتحاد الجمهوريات العربية، قبل أن يصبح لاحقا، ومنذ ثمانينيات القرن الماضى وحتى اليوم، مركزا للقرار ومقرا لحكم البلاد، شاهدا على تحولات السياسة المصرية، من زمن الملوك إلى زمن الرؤساء.