ليس غريبًا أن تعكس الكتابة ملامح كاتبها، فكل نص يحمل في داخله جزءًا من روح من خطّه، وهذا ما يتجلى بوضوح في المجموعة القصصية "أُقفل المحضر ساعته وتاريخه" للكاتبة البارعة الأستاذة وئام أبو شادي. فمن يعرف وئام كشاعرة حساسة تهتم بمن حولها، سيدرك أن هذه النصوص هي امتداد لها، مرآة تعكس رهافة إحساسها، تعاطفها الكبير مع الآخرين، وتأملها العميق في مصائر البشر.
الكتابة هنا ليست مجرد حكايات من نسج الخيال، بل هي جزء من عالم حقيقي نعيشه، بأفراحه الصغيرة وأحزانه الكبيرة. إنها محاولة لفهم الإنسان، لرصد تعقيداته، وللإمساك بلحظاته العابرة قبل أن تذوب في زحام الحياة.
بين الواقع والخيال: عندما تكون الحياة أكثر دهشة من الأدب
في افتتاحية المجموعة، تختار الكاتبة اقتباسًا بليغًا للكاتب أسامة أنور عكاشة: "الواقع أغنى من خيال أي مؤلف." هذا الاختيار ليس عابرًا، بل هو بمثابة إعلان مبكر لطبيعة القصص التي تنتظر القارئ. وئام لا تعتمد على الخيال المحض، بل تستلهم قصصها من الحياة نفسها، من الأشخاص الذين نلتقي بهم يوميًا دون أن نعرف ما يختبئ خلف وجوههم، من تلك الحكايات غير المروية التي تجري في الخلفية بينما نمضي في حياتنا دون أن ننتبه لها.
شخصيات هذه المجموعة ليست مجرد أسماء على الورق، بل هي أناس حقيقيون، كل واحد منهم يحمل قصته الخاصة، معاناته، أحلامه، صراعاته. هنا، لا نجد الأبطال بالمعنى التقليدي، بل نجد أناسًا عاديين، مثلنا تمامًا، لكنهم في لحظة ما، يصبحون أبطالًا لقصصهم، وليسوا مجرد شخصيات هامشية في حياة الآخرين.
الاقتصاد اللغوي: حين تصبح الكلمات كافية تمامًا
إحدى أبرز سمات هذه المجموعة هي القدرة على التكثيف. وئام لا تفرط في الوصف، لا تلجأ إلى الإطناب، بل تكتب بأسلوب مكثف، يجعل كل كلمة في مكانها الصحيح، لا تزيد ولا تنقص. هذه المهارة ليست غريبة على من يملك حسًّا شعريًا مرهفًا، فالكاتبة تستطيع أن تختزل عالمًا كاملًا في بضعة سطور، دون أن تفقد النص عمقه أو تأثيره.
إنها تكتب مثل رسام بارع، يضع بضعة خطوط بسيطة على الورق، لكنها تكفي لرسم صورة كاملة، مليئة بالحياة والتفاصيل. في عالم الأدب، هناك من يحتاج إلى مئات الصفحات ليعبر عن إحساس معين، بينما تنجح وئام في إيصال الفكرة ذاتها بجملة واحدة، تاركة للقارئ مساحة كبيرة للتأمل والتفسير.
نساء المجموعة: بين الألم والقوة
تلعب المرأة دورًا محوريًا في قصص هذه المجموعة. هنا، نجد المرأة العاملة التي تحاول تحقيق ذاتها، الزوجة التي تواجه تحديات الحياة، الأم التي تعاني من فقدان ابنها، الطالبة التي تبحث عن مكانها في العالم، أستاذة الجامعة التي تتصدى للصعوبات بصبر وثبات.
كل واحدة من هؤلاء النساء هي بطل حقيقي، ليست مجرد انعكاس نمطي للأنوثة في الأدب، بل شخصية لها صوتها الخاص، لها صراعاتها التي تخوضها بشجاعة، حتى لو لم تكن النهايات دائمًا سعيدة.
المثير في هذه القصص أن الكاتبة لا تضع المرأة في إطار الضحية، بل تجعلها فاعلة، مؤثرة، قادرة على التغيير، حتى لو كان التغيير بطيئًا ومؤلمًا. هناك خط من القوة يمتد بين جميع الشخصيات النسائية، حتى في لحظات ضعفهن، نجد أنهن يحملن في داخلهن قدرة هائلة على التحمل والاستمرار.
واقعية حدّ الألم، وخيال حدّ الحلم
تمزج وئام أبو شادي في هذه المجموعة بين الواقعية الصارخة والخيال الحالم. الأحداث تبدو حقيقية، مألوفة، وكأنها مقتطعة من صفحات الحياة اليومية، لكن هناك دائمًا لمسة خيالية تجعل النصوص أكثر عمقًا وأشد تأثيرًا.
هذه ليست واقعية جافة، توثق الأحداث كما هي، بل هي واقعية تنبض بالمشاعر، تتخللها لمحات من الحلم، كأنها تحاول أن تقول إن الحياة ليست مجرد معاناة، بل فيها أيضًا لحظات من الجمال الخفي، ذلك الجمال الذي لا يراه إلا من يمتلك حساسية خاصة تجاه العالم.
اللغة هنا تلعب دورًا كبيرًا في تحقيق هذا التوازن. فهي من جهة مباشرة وسهلة، لكنها من جهة أخرى تحمل شحنة شعرية تجعلها أكثر ثراءً وجاذبية. كأن كل قصة هي مقطوعة موسيقية، تبدأ بنغمة معينة، ثم تتصاعد، ثم تنتهي على وقع إحساس يبقى مع القارئ حتى بعد أن يطوي الصفحة الأخيرة.
العنوان: "أُقفل المحضر"... بين القانوني والرمزي
العنوان "أُقفل المحضر ساعته وتاريخه" ليس مجرد اسم لإحدى القصص، بل هو عنوان يعكس جوهر المجموعة بأكملها. المحضر، في مفهومه القانوني، هو وثيقة توثق حدثًا ما، تثبته بشكل رسمي، ثم يتم إغلاقه. لكن في هذه المجموعة، كل قصة هي محضر من نوع آخر، توثيق لحياة شخصياتها، لتجاربهم، لأحزانهم وانتصاراتهم الصغيرة.
اختيار هذا العنوان يحمل دلالات رمزية قوية. فهو يشير إلى أن كل قصة تنتهي عند نقطة معينة، لكن ذلك لا يعني أن الحكاية انتهت تمامًا. هناك دائمًا تفاصيل أخرى، أبعاد غير مرئية، أحداث لم تُروَ بعد. القصة تُغلق، لكن أثرها يظل قائمًا، تمامًا كما هو الحال في الحياة الواقعية، حيث قد تُغلق الملفات، لكن الذكريات لا تختفي.
خاتمة: أدب يبقى حيًا في الذاكرة
ما يجعل هذه المجموعة القصصية مميزة ليس فقط جمال أسلوبها، ولا براعة الكاتبة في بناء الشخصيات، بل قدرتها على أن تبقى في ذهن القارئ بعد انتهاء القراءة. هذه ليست قصصًا تُقرأ مرة واحدة ثم تُنسى، بل نصوص تحمل في داخلها تجربة إنسانية حقيقية، يمكن العودة إليها أكثر من مرة، وفي كل مرة يجد القارئ فيها شيئًا جديدًا.
"أُقفل المحضر ساعته وتاريخه"، للكاتبة البارعة الأستاذة وئام أبو شادي، ليس مجرد عنوان لمجموعة قصصية، بل هو إعلان عن أدب يلتقط تفاصيل الحياة بحساسية نادرة، يكتب عن البشر كما هم، بضعفهم وقوتهم، بأحلامهم وخيباتهم، ويجعلنا نراهم بعيون جديدة، كأننا نلتقي بهم للمرة الأولى، رغم أنهم كانوا دائمًا حولنا، في زوايا حياتنا اليومية، دون أن ننتبه لهم.