يمكن القول إن سيد درويش، من الخالدين، هذا ما تؤكده موسيقاه وألحانه العابرة للزمن، والمتحدة مع أحاسيس الناس، وقضايا الوطن والواقع، فعلى الرغم من وفاة السيد منذ أكثر من 100 عام، لا يزال اسمه، يتردد مرتبطا بالقيمة، واستمرارية فى التأثير وإثارة الجدل، ومن هذا الجدل، ما يطرحه البعض أحيانا، من أن بعض ألحان فنان الشعب جاءت «مُستلهمة» من تجارب آخرين، وهو ما أثار لدينا رغبة فى التحرى والبحث عن أصالة الألحان ومدى التأثير والتأثر.
بدأت القصة خلال دراستى بالمعهد العالى للنقد الفنى، حيث كُلفت بإعداد بحث عن أحد الموسيقيين المصريين فى القرن العشرين، فوقع اختيارى على المؤلف الموسيقى الفذ فؤاد الظاهرى، فتناولت حياته ونشأته ومشواره الفنى بالدراسة وبعض التحليل، إلى جانب التركيز على أحد أعماله الموسيقية فى السينما، ووقع الاختيار على فيلم «شباب امرأة»، الذى تم إنتاجه فى عام 1956، وأخرجه صلاح أبو سيف.
كان البحث عن فؤاد الظاهرى، عملًا ممتعًا، لاسيما إذا كان هذا البحث يعتمد على الغوص داخل مجموعة كبيرة من المراجع والمصادر والكتب، التى تفتح آفاقا لا نهائية أمام الباحث، وتمنحه متعة المعرفة، ربما بشكل يتجاوز متعته بالعثور عما يبحث عنه بالأساس.
كانت حلقة الوصل بين البحث الذى كنت أقوم بإعداده، وهذا الموضوع، هى تلك التيمة الموسيقية التى تضمنها فيلم «شباب امرأة»، والتيمة هنا يُقصد بها جملة موسيقية، يعاد توظيفها مرات متكررة بأنماط مختلفة، بما يخدم المعنى الدرامى للعمل الفنى، وفى «شباب امرأة»، كانت التيمة الموسيقية التى بنى عليها الظاهرى رؤيته الموسيقية، هى «آه يا زين»، وهو لحن شهير ومعروف نوعا ما، وقد تغنى به مجموعة من المطربين من بينهم صباح ــ بكلمات مختلفة، ولكن بنفس اللحن، إلا أن الظاهرى، قام بتوظيف اللحن فحسب داخل سياق الأحداث، لما لهذه التيمة الموسيقية من تأثير على النفس.
بالطبع حاولت البحث عن لحن «آه يا زين»، على مواقع الإنترنت الموثوقة، وبين الكتب المتوفرة سواء الورقية، أو من خلال كتب الـ pdf، أو حتى بين تطبيقات الكتب، وهنا كانت بداية الرحلة، إذ أن بعض المصادر تؤكد أن لحن «آه يا زين»، ما هو إلا لحن من التراث غير معروف ملحنه على وجه الدقة، بينما يذهب آخرون إلى أنه أحد الألحان الأساسية للشيخ سيد درويش، لكن المفاجأة أن هناك رأيًا ثالثًا يقول إن اللحن للملحن العراقى والشاعر والمتصوف الملا عثمان الموصلى، وهو بالأساس لحن أغنية تحمل اسم «النوم مُحرَّم لأجفانى».
هنا، بدأت رحلة جديدة للبحث عن صاحب اللحن الحقيقى، هل هو بالفعل الشيخ سيد درويش، أم الملا عثمان الموصلى؟ لم أكن أعلم وأنا أفتح صفحة جوجل، أننى أبحث عن الأستاذ والطالب فى اللحظة نفسها، فالملا عثمان الموصلى، هو الأستاذ الذى تربى على يديه سيد درويش أثناء رحلتيه إلى الشام، بل إن سيد درويش الذى سافر إلى الشام والتقى بالموصلى ليس هو سيد درويش الذى عاد محملًا بالعلوم الموسيقية ودراسة المقامات المختلفة، والاختلافات الفكرية فى الأنواع المتنوعة من الأغانى بأنواعها كالدور والطقاطيق وغيرها من الأشكال الموسيقية.

عثمان الموصلي
فى هذه اللحظة وأنا أتعرف للمرة الأولى على الملا عثمان الموصلى، انتابنى شعوران مختلفان، الأول، هو فرحة الاكتشافات الجديدة، أما الثانى، فهو الشعور بالخجل، من عدم معرفتى باسم كبير، كالملا عثمان الموصلى وتأثيره على الموسيقى العربية، فكيف أدرس الفنون وأبحث فيها ولا أعرف أستاذ سيد درويش.
ويبدو أننى نسيت أمر البحث الذى أقوم بإعداده تمامًا، فأثناء عملية بحثى عن الموصلى ودرويش، عثرت على أحد المقالات على موقع إلكترونى لأحد المؤسسات الموسيقية العراقية، بقلم الدكتور باسل يونس ذنون الخياط، يقول فيه إن لحن «آه يا زين»، الذى يُنسب إلى الشيخ سيد درويش، هو بالأساس مقتبس من موشح الملا عثمان «النوم مُحرَّم لأجفانى»، وبالطبع، كان لا بد من الاستماع لهذا الموشح، بالتأكيد كنت أعرف أننى لن أجد تسجيلًا بصوت الموصلى، لكن وجدت بالفعل بعض الفيديوهات لمطربين وفرق يغنون الموشح، بنفس لحن «آه يا زين»، صحيح أن إيقاع أغنية الموصلى أكثر بطئًا من أغنية آه يا زين، ولكن يظل اللحن واحدًا.
الطريقة القندرجية
فى هذه اللحظة، كدت أعود مرة أخرى، لبحثى عن فؤاد الظاهرى، بعدما لم أتيقن من حقيقة صاحب لحن «آه يا زين» فليس هناك من المراجع المصرية ما يؤكد أن اللحن لسيد درويش، كذلك لا يمكن تصديق مقال أو أكثر يدّعون أن اللحن للملا عثمان الموصلى، لكن ما صدمنى، وجعلنى أواصل البحث واستمر فى التقصى، ما ذكره بعض الكتاب والموسيقيين العراقيين، من أن «آه يا زين»، ليس اللحن الوحيد الذى اقتبسه سيد درويش من الشيخ الملا عثمان الموصلى، بل إن ألحان «زورونى كل سنة مرة»، و«طلعت يا محلى نورها» هى أيضًا ليست من إبداعات السيد.
عثمان الموصلي
كتبت العديد من المواقع العراقية عن هذا الأمر، وكيف أن سيد درويش تأثر بأستاذه الموصلى فى التلحين، وأنه اقتبس منه ألحانًا ووضع كلمات مختلفة عليها، ومن هنا أخدت هذه الأغنيات شهرة واسعة، بينما لم تركز الصحافة المصرية بشكل كبير على هذه النقطة، فهناك من كتبوا بالفعل بشكل عابر عن هذه العلاقة، ولكن يظل السؤال مطروحًا، هل اقتبس سيد درويش ألحانه من الملا عثمان الموصلى، وتحديدًا لحنى «زورونى كل سنة مرة»، و«طلعت يا محلى نورها»؟
من هنا، بدأتْ البحث بين عشرات الصفحات على مواقع الإنترنت، وبعض الكتب التى توفرت عن هذه الفترة الزمنية.
ولأن الادعاء أن سيد درويش هو من اقتبس من الملا عثمان الموصلى هذه الألحان، فنبدأ بالسردية العراقية التى ترى أن الألحان للموصلى وأخذها عنه سيد درويش، إذ يقول المطرب والكاتب العراقى حسين إسماعيل الأعظمى فى كتابه «الطريقة القندرجية فى المقام العراقى وأتباعها.. دراسة تحليلية فنية نقدية لإحدى طرق الغناء المقامية البارزة فى القرن العشرين»، إنه عندما كان سيد درويش تلميذًا للملا عثمان الموصلى بعض السنوات فى حلب وسنوات أخرى فى القاهرة، عندما قام الموصلى بزيارة إلى القاهرة، فقد أعطى الموصلى لتلميذه سيد درويش ألحانًا كثيرة كان قد لحنها الملا عثمان أصلاً، كأعمال لحنية دينية يرددها المنشدون فى الشعائر الدينية بدون آلات موسيقية، ومن ثم جعلها السيد أعمالًا دنيوية غنائية موسيقية حيث وضع لها إطارا موسيقيا محافظا على اللحن الأصلى، ومحورًا الكلمات للأغراض الدنيوية مثل أغنية - زوروا قبر الحبيب مرة - أصبحت «زورونى كل سنة مرة».. و«طلعت يا محلا نورها» أصلها «بهوى المختار المهدى».
الأغاني العصرية
إذا، فوفقا للأعظمى فإن «زورونى كل سنة مرة»، كانت «زوروا قبر الحبيب مرة»، والحجة فى ذلك، أن هذا التوجه الدينى فى الأغنية الخاصة بالموصلى، نابع من صوفية الموصلى، فكتب زوروا قبر الحبيب مرة، وهنا يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذه الأغنية قصة يرويها الباحث والموسيقى الدكتور سعد الله أغا القلعة، وزير السياحة الأسبق فى سوريا، ومؤسس موسوعة «كتاب الأغانى الثانى»، حيث يقول: «تقول الرواية المتداولة أن عثمان الموصلى رأى النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى المنام يعاتبه لعدم زيارته، فأفاق من نومه حزينًا، ثم وضع لحن موشح «زر قبر الحبيب مرة» على مقام العجم، وأضافه لأشغال المولد النبوى، ولايزال يغنى بهذا الشكل فى بغداد بدون الآلات الموسيقية».
سأعود مرة أخرى للحن «زورونى كل سنة مرة»، لما به من تفاصيل مهمة، أما اللحن الثانى فهو «طلعت يا محلى نورها شمس الشموسة»، وتشير السردية العراقية إلى أن اللحن مأخوذ من لحن الموشح «بهوى المختار المهدى»، كما أشرنا سابقًا، وهو أيضًا ذو صبغة صوفية.
سيد درويش
ويضيف الكاتب العراقى سامر المشعل فى مقاله بجريدة الصباح العراقية بتاريخ 12 أكتوبر 2019، تحمل عنوان «ملا عثمان الموصلى الموسيقار المغيَّب»، أن سيد درويش أخذ من ملا عثمان العديد من الألحان وحولها من إنشاد دينى إلى غناء عاطفى، ليس هذا فحسب، بل هناك الكثير من الألحان تعود إلى عثمان الموصلى، ومنها أغنية طالعة من بيت أبوها وأغنية «دزنى واعرف مرامى» وأغنية «اسمر بشامة» وأغنية «أم العيون السود» وأغنية «فوق النخل» وغيرها. إذًا، فسيد درويش ليس الوحيد فى قائمة مقتبسى ألحان الملا عثمان الموصلى، بل إن القائمة تطول ملحنين من دول عربية أخرى.
شهادة عراقية أخرى تنتصر لفكرة أن الألحان بالأساس للملا عثمان الموصلى، لكن هذه المرة للكاتب العراقى عادل البكرى، فى كتابه «عثمان الموصلى الموسيقار الشاعر المتصوف»، يقول «أقام سيد درويش فى الشام سنتين بين عامى 1912 إلى 1914 واستطاع فيها أن يأخذ الكثير من فنون الموسيقى، وقد حفظ عن الموصلى كل ممتع رائع من الغناء والألحان مما جعله قادرًا على التصرف بالنغم الشرقى وإدخاله فى الأغانى المبتكرة ثم رجع إلى مصر وقد رسم فى ذهنه خطوطًا عريضة للموسيقى والألحان تتصل بالماضى العريق مأخوذة من تراثنا الفنى العربى وتتصل من طرف ثان بنهضة موسيقية حتى تبلغ القمة.. وقد انتشرت الأغانى الجديدة التى اقتبسها سيد درويش عن أستاذه الموصلى إلى جانب الألحان الأخرى التى وضعها وشاعت فى مصر وتداولها الهواة فى كل مكان».
مراجعات في الآداب والفنون
وبعد استعراض السردية العراقية التى تقول إن هذه الألحان من تأليف الملا عثمان الموصلى وليس لسيد درويش، علينا أن نطرح الآن سؤالًا مشروعًا، لماذا لا نفترض أن الموصلى هو الذى نقل الألحان حينما التقى بسيد درويش، سواء فى الشام، أو حينما قدم الموصلى إلى القاهرة؟
هذا السؤال طرح من قبل الدكتور سعد الله أغا القلعة، عبر مقال مطول على موسوعته الإلكترونية «كتاب الأغانى الثاني»، هذه الفرضية تجعلنا نُعيد ترتيب الأحداث بشكل مختلف، لكن هذه المرة وفقًا لسردية مصرية تختلف عن نظيرتها العراقية.
نعود مرة أخرى إلى لحن «زورونى كل سنة مرة»، حيث يقول أغا فى مقالته، «من المعروف أيضا أن الملا عثمان سافر لاحقا إلى القاهرة، والتقى سيد درويش مجددًا.. ولا يستبعد بالتالى أنه سمع اللحن من سيد درويش، الذى كان وضع لحنه هذا، وهو فى الإسكندرية حوالى العام 1915، وكان هذا اللحن سببا فى ذيوع شهرته ودعوته للقاهرة من قبل جورج أبيض، فأعجب به عثمان الموصلى، وغناه فى العراق لاحقًا فنسب إليه».
ما يلفت النظر بشدة، ويعزز وجهة النظر هذه، أنه فى هذه الفترة كان شائعًا للغاية أخذ الألحان الشهيرة والمميزة، ووضع كلمات صوفية دينية عليها، بدلًا من كلماتها الأصلية، وهو ما يشير إليه الأغا فى نفس المقال، فيقول: «من الشائع حتى اليوم، أخذ ألحان دنيوية لإلباسها بنصوص صوفية».
لا ينكر المؤرخون المصريون والفنانون والكتاب، مثل عباس محمود العقاد فى كتابه «مراجعات فى الآداب والفنون»، أو الدكتور زين نصار فى موسوعته «الموسيقى والغناء فى مصر فى القرن العشرين»، أن سيد درويش تتلمذ على يد الملا عثمان الموصلى، لكنهم فى نفس الوقت، لا يجزمون بأنه نقل عنه أو اقتبس ألحانًا بعينها، فالكاتب الدكتور محمود أحمد الحفنى يقول فى كتابه «سيد درويش»: «كان ظهور هذه الأغنيات الخفيفة مصدر خير له، فقد تصادف أن رحل جورج أبيض بفرقته التمثيلية إلى الاسكندرية عام 1917 وكان قد ضم إليه حديثاً الشيخ حامد مرسى ليقوم بأداء بعض الأغانى فى فرقته، وسمع جورج أبيض أغنية «زورونى كل سنة مرة» يؤديها سيد درويش بصوته فى قهوة الحميدية، على الميناء الشرقية، وهو آخر مقهى عمل فيه حينئذ، وبلغ من فرط إعجاب جورج أبيض بتلك الأغنية أن طلب إلى الفنان تلقينها لحامد مرسى لتكون ضمن ما يلقيه بين الفصول فى حفلات فرقته، وتم ذلك فعلًا فى يوم وليلة، وألقى حامد مرسى هذه الأغنية البديعة فى مسرح الهمبرا بالإسكندرية فى ليلة كانت تقدم الفرقة فيها تمثيلية «لويس الحادى عشر»، وقد بلغ من نجاح هذه الأغنية فى تلك الليلة، ومبالغة الجمهور فى استقباله لها ما ضاق به صدر جورج أبيض، إذ أحس بالفن الموسيقى يغزو فنه الدرامى، ولكن جورج أبيض اعتزم فى نفسه أمرًا، فقد عمد إلى مقابلة الموسيقار فى اليوم التالى، وأخذ يغريه بشتى الوسائل على الرحيل إلى القاهرة وقد وعده أن يعهد إليه فيها بتلحين مسرحياته الغنائية».
ووفقًا لهذه السردية المصرية، التى تؤكد أن الأغنية «درويشية» الصنع، وليست مأخوذة أو مقتبسة، فإن هناك أكثر من رواية خاصة بهذه الأغنية، أولها يذكرها يونس القاضى نفسه فى حوار مع جريدة المساء فى عام 1965، حيث يقول «كسبت كثير جدًا من أغنية «زورونى كل سنة مرة».. لكن أهم حاجة كسبتها أنى اصطلحت مع أختى»، وحينما سأله المحاور عن علاقة الأغنية بشقيقته قال، «أنا ألفت الأغنية مخصوص بعد قطيعة بينى وبين أختى».
موسوعة الموسيقا والغناء
وتأكيدا لاعتزاز يونس القاضى بهذه الأغنية، يقول فى نفس الحوار، إن أغنية فيروز «زورونى كل سنة مرة»، والتى أخذ مطلع الأغنية الأصلية فقط، لم تعجبه، ولم يشعر أنه يسمع ألحان سيد درويش.
أما الرواية الثانية فتقول إن مناسبة تأليف «زورونى كل سنة مرة» كانت امرأة يحبها سيد درويش، وهى من قالت له هذه العبارة، «أبقى زورنا يا شيخ سيد ولو كل سنة مرة»، بحسب ما ذكره الكاتب محمد عوض فى كتابه «عباقرة الإنشاد الدينى»، بينما رواية مشابهة جاءت على لسان الشيخ يونس القاضى فى مذكراته، إذ وصف كيف عاصر واقعة تأليف ذلك اللحن، عندما كان سيد درويش يزور جليلة الإسكندرانية التى كان يحبها، وهى من عوالم الإسكندرية، وكان يود إنهاء علاقته معها، لأن تأثيرها أصبح يؤثر على عمله، فقالت له «ابقى زورونا كل سنة مرة یا شیخ سید حرام تنسونا بالمرة»، وكان بصحبته الشيخ يونس فشرع معه فى تأليف كلمات اللحن وأتمه سيد درويش فى تلك الجلسة».
مصدر آخر غاية فى الأهمية، يؤكد أن اللحن من تأليف سيد درويش، وهو كتاب «الأغانى العصرية» لكامل الخلعى، وهو أقدم مرجع فى هذه السطور حتى الآن، إذ أن الكتاب يرجع لعام 1921، يذكر فيه الطقاطيق والدور الخاص بمطربى هذه الفترة، وجاء فى فصل سيد درويش طقطوقة «زورونى كل سنة مرة»، فإذا كان اللحن مقتبسًا من الملا عثمان الموصلى، كان بالأولى أن يقول الخلعى ذلك، لاسيما أنه عاصره والتقاه.
السيد درويش
لمحة أخرى، قرأتها جيدًا، تجعلنا نستبعد فكرة الاقتباس المباشر، وهى أن سيد درويش كان شديد الحرص على ألحانه، ويذكر الحفنى واقعة فى كتابه تظهر مدى ارتباط واعتزاز درويش بأعماله، حيث يقول: «وحدث مرة أن قصد سيد درويش الى أحد المسارح الغنائية فسمع ضمن استعراضاتها لحنًا من ألحانه قد أخذ بأكمله مع تغيير الكلمات وجعلها على وزن المقطوعة، الأصلية لتساير اللحن، أما المقطوعة الأصلية فهى لحن القلل القناوى وأما القطعة المستعارة، فهى خاصة باستعراض حياة الغانيات، وما كاد الفنان يستمع إلى لحنه المغتصب حتى قصد إلى الملحن الذى لم تشفع له زمالة ولا صداقة وأهوى عليه بالضرب فى غير شفقة ولا هوادة، دون أن ينتظر إنصاف القانون أو التقدم بشكوى».
هذه الواقعة تجعلنا نطرح سؤالًا مهمًا، هل يمكن لهذا الشخص العنيف للغاية فى دفاعه عن ألحانه، أن يأخذ ألحانًا من غيره، ويغير كلماتها، ثم يعيد إنتاجها باعتبارها أعمالًا من تلحينه؟
وبالطبع فإننا نتفق مع الدكتور إيهاب صبرى، أستاذ النقد الموسيقي بالمعهد العالى للنقد الفني بأكاديمية الفنون، والذي قال: التأثير والتأثر مسألة قديمة في الموسيقى العربية، وفى أي نوع من أنواع الموسيقى، لكن هناك الكثير من المواقف التي لا نستطيع أن نحسم فيها الجدل، لا سيما في الزمن الذى لم يكن من السهل فيه أن يتم توثيق هذه الأعمال الفنية، وبالتالي، لابد من التقصى والبحث المستمر، مشيرا إلى أن هناك تراث معلوم الألحان والمؤلف، وآخر مجهول الملحن، أو ربما كلاهما.
وفى النهاية، قد يحق للعراقيين أن يفخروا بشخص عظيم، مثل الملا عثمان الموصلى، كونه مجدد فى الموسيقى ومعلمًا لأجيال، إلا أن المصادر المصرية، أكدت بما لا يدع مجالًا للشك، أن هذه الألحان «درويشية» بامتياز، ليس فقط بسبب لشهادة مبدعى هذا العصر، من بينهم يونس القاضي، الذى كتب كلمات الأغنية، ولكن لطبيعة سيد درويش نفسه، الذى كان ينسج الأنغام والألحان وفقًا لمشاعر الشخصية، وما يمر به من مواقف يومية، بحيث يترجم مشاعره سريعًا إلى موسيقى آسرة للقلوب، وإن كان ذلك لا ينفى تتلمذ سيد درويش على يد الشاعر والموسيقى العراقى عثمان الموصلى.