تعد فترة الخديوي إسماعيل واحدة من أخطر الفترات في التاريخ المصري، فقد كان الخديوي يسعى لبناء دولة تضاهي دول أوروبا لكنه لم يكن يملك الإمكانات، كما أن أفكاره لم تتناسب مع قدرات بلده، لكن بعض الكتب ذهبت إلى أنه عمل بجد في مسألة استقلال مصر عن الدولة العثمانية حتى لم يكن بينه وبين الاستقلال التام سوى خطوة واحدة، هو ما رصده كتاب "مصر للمصريين" لـ ألكسندر شولش، والذي يقول تحت عنوان "الحاكم شبه المستقل وسيده":
قبل أن يؤدي تدخل الدول الأوروبية في الشئون الداخلية للبلاد إلى تدهور النظام الاجتماعي السياسي، كان الخديو إسماعيل يحكم المصريين حكمًا مطلقًا، أي إن إرادته الشخصية كانت لها السيادة أولًا وأخيرًا حتى في المسائل المتعلقة بالموت والحياة.
وكان إسماعيل خامس حُكَّام الأسرة الأجنبية التي أقامت حكمها في مصر في أعقاب حملة نابليون، وكان وضع مؤسسها — محمد علي — في البداية وضع الوالي التابع للسلطان، ولكن بعد حروبه الناجحة ضد سيده السلطان في183- 1832 و1839م حيث تعرَّضت الدولة العثمانية للخطر لولا قيام الدول الأوروبية بإنقاذها مرتين، مُنِحَت مِصرُ حقوقًا إدارية واسعة (بمقتضى معاهدة لندن في 15 يوليو 1840م والفرمانات السلطانية الصادرة في 13 فبراير وأول يونيو 1841م)، كما مُنِحَت أسرة محمد علي حكم مصر وراثيًّا على أن يلي حكمها الأرشد فالأرشد من أسرة محمد علي. ولكن السلطان فرض شروطًا مختلفة على حُكَّام مصر: كمبادئ خط شريف جلخانة الصادر في 1839م، كما أن المعاهدات الدولية التي يُبرمها السلطان كانت تسري على مصر، وتُفرض الضرائب وتُسَكُّ العملة باسم السلطان، ولا تزيد قوة الجيش المصري في وقت السِّلم عن ثمانية عشر ألف جندي، واحتفظ السلطان لنفسه بحق تعيين الضُّباط من رتبتي اللواء والفريق وبحق الحصول على جِزْيَة سنوية تُدفع للباب العالي.
وظلَّ وضع مصر ووضع حكامها في إطار الدولة العثمانية ثابتًا بالضرورة طوال حكم الولاة الثلاثة من خلفاء محمد علي. وعلى أيَّة حال حاول إسماعيل طوال السنوات العشر الأولى من حكمه أن يرفع تلك القيود، وأن يُوسِّع سلطته، وفضَّل إسماعيل الوسائل الدبلوماسية كما فهمها — الأموال والهدايا لكل من وعده بالمساعدة بأي شكل من الأشكال وخاصةً السلطان نفسه — على الصدام العسكري الذي لجأ إليه محمد علي.
فدفع الأموال أولًا إلى السلطان لتغيير نظام ولاية العرش؛ ومن ثَم حصل على فرمان ٢٧ مايو 1866م الذي استبدل بوراثة الأرشد الوراثة الصُّلبية. وفي نفس الوقت سمح له بأن يحتفظ بجيش قوامه 30 ألف رجل زمن السِّلم، ولكن الجزية التي يدفعها للسلطان زيدت من 80000 إلى 150000 كيس سنويًّا (أي ما يُعادل 681500 جنيه إسترليني)، وخلع الفرمان الصادر في 8 يونيو 1867م على إسماعيل وخلفائه «لقب الخديو» وهو لقب فارسي الأصل؛ ومن ثَم أصبح إسماعيل حاكمًا شبه مستقل. وأصبحت طبيعة استقلاله الذاتي أكثر تحديدًا عندما سُمِح له بإيجاد المؤسسات الإدارية التي يرى ضرورة إيجادها، وإصدار اللوائح الخاصة بها، وعقد الاتفاقات الإدارية مع الدول الأجنبية، ولكن إبرام المعاهدات ظلَّ من حق السلطان وحده، وفي 29 نوفمبر 1869م صدر الفرمان الذي حرَّم على إسماعيل عقد القروض الأجنبية دون موافقة الباب العالي، ولكن إسماعيل استعاد هذا الحق بموجب فرمان 25 سبتمبر 1872م. وفي 8 يونيو 1873م صدر الفرمان الذي أكَّد كل تلك الامتيازات ورفع القيود الخاصة بتحديد قوة الجيش المصري.
وبذلك وصل الاستقلال الذاتي المصري إلى نقطة تقل درجةً واحدة فقط عن مرتبة الاستقلال التام. ولا تزال الأسباب التي جعلت إسماعيل يُحْجِمُ عن اتخاذ الخطوة الأخيرة في هذا الصدد والظروف التي قد يكون مستعدًّا عندها لاتخاذ مثل هذه الخطوة في حاجة إلى استيضاح.
ففي خلال ثورة كريت ضد الحكم التركي، سعت اليونان إلى التحالف مع مصر ضد السلطان عام ١٨٦٧م مفترضةً أن إسماعيل كان يسعى إلى تحقيق الاستقلال الكامل عن الباب العالي، وقدَّم القنصلُ اليوناني إلى وزير الخارجية راغب باشا (الذي كان من مواليد اليونان) عرضًا رسميًّا «لعقد تحالف بين الأمتين الصغيرتين اللتين تُعدان من أقدم الأمم»،٣ غير أن استجابة الحكومة المصرية لهذا العرض كانت سلبية. وذكر إسماعيل للقنصل اليوناني في ٢٢ أبريل ١٨٦٧م أنه لا يعتزم فصم الروابط التي تربط مصر بالباب العالي، وأنه يسعى لتحقيق أهدافه بطريق المفاوضات وليس الحرب.
وقد يبدو أن إسماعيل كان لا يرغب في أن يَلحَقَ به مصير محمد علي الذي سلبته الدول الأوروبية ثمار انتصاراته العسكرية؛ فقد بدا استقلال مصر لتلك الدول بداية النهاية للإمبراطورية العثمانية التي كانوا يحاولون الإبقاء عليها. وعلى أيَّة حال، أشار إسماعيل أكثر من مرة في مناسبات بعينها إلى أنه لن يتردَّد في فصم روابطه بالدولة العثمانية إذا حاول السلطان خلعه، فذكر للقنصل النمساوي — عام ١٨٦٩م — أنه قد يُعلن استقلال مصر في تلك الحالة.
وكان المراقبون الأوروبيون يتوقعون أن يخطو إسماعيل هذه الخطوة خلال احتفالات افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩م. ويبدو أن إسماعيل توصَّل إلى تفاهم مع الملك فيكتور عمانويل ملك إيطاليا حول هذا الموضوع، ولكن تحقيق ذلك باء بالفشل نتيجة معارضة فرنسا، وحقيقة ذلك الاعتراض معروفة عامة. غير أن الاعتقاد كان سائدًا أن إسماعيل قد يخطو الخطوة الحاسمة إن عاجلًا أو آجلًا. وكتب أحد المشاركين الألمان في احتفالات عام ١٨٦٩م يقول: «إن إعلان استقلال مصر أصبح بالضرورة مسألة انتظار اللحظة المناسبة، بعدما تطوَّر البناء العضوي لشروط ذلك الاستقلال تطورًا راسخًا.»
وقد قيل للضُّبَّاط الأمريكيين الذين أدخلهم إسماعيل في خدمته والذين جاءوا إلى مصر في مطلع عام ١٨٧٠م إن مهمتهم مساعدة مصر على نيل استقلالها، ولكن الخديو ما لبث أن ارتضى تحديد علاقته بالسلطان على أساس فرمانَي ١٨٧٢م و١٨٧٣م، ولم تتكرَّر أزمة ١٨٦٩-١٨٧٠م التي وقعت بين إسماعيل والسلطان. ومنذ عام ١٨٧٥م أصبحت الأزمة المالية هي كل ما شغل بال إسماعيل.
وعندما أصبح يُدرك مدى التهديد الذي يتعرَّض له من جانب الباب العالي في الأسابيع السابقة على خلعه عام ١٨٧٩م، بدأ يُعد العدة لصدام عسكري مع السلطان، ولكنَّه أذعن في نهاية الأمر. ولعله رأى أنه لا جدوى في الخروج على السلطان والدول الأوروبية معًا، أو لعله كان لا يثق في إمكانية الاعتماد على جيشه في ضوء الكارثة التي تعرَّض لها في الحبشة عام ١1875-1876م.
ومن ثم يتضح أن محمد علي — وبدرجة أقل — إسماعيل قد رَغِبَا في جعل مصر مملكةً مستقلة عن الباب العالي، ولكن أوروبا حالت دون ذلك. غير أن إسماعيل حقَّق لبلاده درجةً كبيرة من الاستقلال الذاتي، ولم يكن هناك إحساس بسيادة السلطان على مصر إلا خلال الأزمات مثل أزمة ١٨٧٩م وأزمة 1881 - 1882م.