يعيش العالم حالة من الحداد، بعد إعلان وفاة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، والزعيم الروحي للكنيسة الكاثوليكية، المولود في الأرجنتين، عن عمر يناهز 88 عامًا، وتواجه الكنيسة الكاثوليكية معركة لاختيار رأسها السابع والستين بعد المائتين، وتحفل المعركة بالتنافسات الأيديولوجية والعقائدية.
وأثارت وفاة البابا فرنسيس، أول بابا غير أوروبي منذ ما يقرب من 1300 عام، يوم الاثنين الموافق 21 أبريل 2025، حالة من الأحزان، صاحبتها إشادة كبيرة تعكس مكانته كسلطة أخلاقية عالمية من جانب القادة في مختلف أنحاء أفريقيا والعالم.
وقد بعث رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي محمود علي يوسف تعازيه نيابة عن الاتحاد الإفريقي، واصفا البابا فرنسيس بأنه "صوت أخلاقي سامي في عصرنا ومدافع ثابت عن السلام والعدالة والرحمة والكرامة الإنسانية".
ومن جهته قال الرئيس الكيني ويليام روتو إن وفاة البابا فرانسيس كانت "خسارة كبيرة للمؤمنين الكاثوليك والعالم المسيحي".
بابا الفاتيكان والقارة السمراء
حرص بابا الفاتيكان الراحل، على توطيد علاقاته بالدول الأفريقية بشكل واضح، إذ زار البابا فرنسيس 10 دول أفريقية، كانت أولها كينيا في نوفمبر 2015، ثم رحلته الأخيرة التي شملت جنوب السودان في فبراير 2023، كما سافر إلى أوغندا ومصر والمغرب وموزمبيق ومدغشقر وموريشيوس وجمهورية الكونغو الديمقراطية .
ولعلّ أبرز زياراته كانت رحلته إلى بانجي، جمهورية أفريقيا الوسطى، في نوفمبر 2015، حيث دخل منطقة حرب ليخاطب الكاثوليك والمسلمين على حد سواء، مناشدًا إياهم وقف القتال.
وبعد أن أنهى صلاة القداس، غامر بالخروج في اليوم التالي، تحت حراسة أمنية مشددة، إلى حي بي كيه 5، الحي العنيف، الذي كان يُعرف بساحة قتال عنيف بين الميليشيات المتناحرة، وزار مسجد كودوكو، وتحدث إلى إمامه تيدياني موسى نايبي.
المتنافسون على الخلافة
ويعيش الفاتيكان الآن فترة حداد مدتها تسعة أيام، تُعرف باسم "نوفينديالي". ويستغرق اختيار البابا القادم من بين مجموعة الكرادلة الذين تقل أعمارهم عن 80 عاما عادة ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، ويحيط بهذا التقليد، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من ألف عام، قدر هائل من السرية، حيث يجتمع الكرادلة (ما يقدر بنحو 130 من أصل 220) في مدينة الفاتيكان في اجتماع مغلق لبدء التصويت على البابا رقم 267.
تميل قاعدة تصويت الكرادلة الإقليمية نحو أوروبا، التي تضم 20.4% من كاثوليك العالم، لكن 40% من الكرادلة المصوتين، و في آسيا، 11% من الكاثوليك، لكن 17% من الناخبين؛ وفي أفريقيا، تبلغ النسبة 20% مقابل 13.3%؛ وفي أمريكا الشمالية، تبلغ 20.4% مقابل 14%. أما أمريكا اللاتينية، فتعاني من وضعٍ أسوأ، حيث تضم 27.4% من كاثوليك العالم، و12.6% فقط من الكاثوليك المصوتين.
من بين المتنافسين على خلافة البابا من الجناح الإصلاحي في الكنيسة، إيطاليان هما الكاردينال ماتيو زوبي، وبييترو بارولينا، وزير خارجية الفاتيكان. وقد يكون الكاردينال لويس أنطونيو تاجلي من الفلبين مرشحًا قويًا إذا حظي بدعم كافٍ خارج آسيا.
وفي الواقع، قد تُؤخذ المواقف العقائدية والأيديولوجية داخل الكنيسة بعين الاعتبار، تمامًا كما يُؤخذ الأصل الإقليمي في الاعتبار عند تحديد مصير الخلافة، وأبرز المحافظين هم الكاردينال بيتر إردو من المجر، الرئيس السابق لمجلس مؤتمرات الأساقفة الأوروبيين.
من بين المحافظين البارزين أيضًا الكاردينال الإيطالي التقليدي أنجيلو سكولا، الذي قد يُحتفى بظهوره أيضًا من قِبَل رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني. لكن سكولا، البالغ من العمر 83 عامًا، فرصه قد تكون ضئيلة بسبب سنه.
وأبرز المحافظين من الكرادلة الأفارقة في الصورة هو الكاردينال روبرت سارة، 79 عاماً، من غينيا، الذي يتخذ موقفاً متشدداً بشأن النوع الاجتماعي والجنسانية.
كبار الكرادلة الأفارقة الآخرين
ومن كبار الكرادلة الذين يتصدروا المشهد بيتر توركسون من غانا، 76 عامًا، الرئيس السابق للمجلس البابوي للعدالة والسلام؛ يدعو إلى العدالة الاجتماعية والعمل المناخي.
وفريدولين أمبونجو بيسونجو من جمهورية الكونغو الديمقراطية، 65 عاماً، رئيس أساقفة كينشاسا، رعوي ويركز على السلام ولكنه محافظ عقائدياً.
وبوليكارب بينجو التنزاني، 75 عامًا، رئيس أساقفة دار السلام السابق، يتمتع بنفوذ إقليمي ويؤيد وجهات نظر محافظة بشأن القضايا العقائدية والاجتماعية
وديودوني نزابالينجا من جمهورية أفريقيا الوسطى، 64 عاماً، رئيس أساقفة بانجي، والمعروف بأنه من دعاة السلام، لكن البعض يعتبره صغيراً جداً في السن.
وأنطوان كامباندا من رواندا، 67 عامًا، رئيس أساقفة كيجالي وناجٍ من الإبادة الجماعية ويركز على المصالحة والتنمية.
إرث دائم
ولد فرنسيس باسم خورخي ماريو بيرجوليو في بوينس آيرس عام 1936، وانتخب بابا للفاتيكان عام 2013 خلفا للبابا بنديكت المحافظ، الذي استقال بسبب اعتلال صحته.
بصفته أول بابا من "الرهبنة اليسوعية"، كان فرنسيس مدافعًا صريحًا عن المستغَلّين والمضطهدين، وفي الوقت نفسه ناقدًا لاذعًا لجشع الرأسمالية وتنامي التفاوتات حول العالم وأصبح مشعلًا للتقدميين داخل الكنيسة وخارجها.
إن روح الشمول والإصلاح التي اتسم بها البابا فرنسيس حددت فترة بابويته، التي اتسمت بالجهود الرامية إلى معالجة النزاعات العقائدية طويلة الأمد داخل الكنيسة، بما في ذلك تلك المحيطة بالقداس اللاتيني - نوفوس أوردو ميساي في اللغة العامية، والعزوبية الكهنوتية، وإعادة زواج المطلقين، والعلاقات المسكونية، وقضايا مجتمع، والهوية الجنسية، والتحديات المستمرة المتمثلة في الاعتداء والحكم من قبل رجال الدين.
وانتقد البابا فرنسيس الحكومات لمعاملتها المهاجرين واللاجئين واستخدامهم كبش فداء، مما أثار حفيظة السياسيين الوسطيين واليمينيين، وأصرّ البابا على أنه لا ينبغي معاملة اللاجئين كـ"بيادق على رقعة شطرنج الإنسانية".
وقد تم اعتبار مكالماته الهاتفية الليلية لكنيسة العائلة المقدسة في غزة منذ 9 أكتوبر 2023 علامة على التضامن مع الفلسطينيين من جميع الأديان، بالتزامن مع دعواته للسلام في المنطقة.
وصف الرأسمالية المُفرطة بأنها "روث الشيطان"، ولعلّ ما كان أشدّ تهديدًا للأنظمة المحافظة هو إصدار البابا فرنسيس رسالةً بابويةً من 180 صفحة حول حماية البيئة، مُطالبًا أغنى دول العالم بسداد "ديونها الاجتماعية الباهظة" للفقراء، وختم البابا مقاله مُجادلًا بأن أزمة المناخ "أحد التحديات الرئيسية التي تواجه البشرية في عصرنا".
ازدادت هذه القضايا تعقيدًا بفعل التوترات الجيوسياسية والصعود العالمي للحركات اليمينية القومية والمحافظة الاجتماعية، ومن المرجح أن تنعكس هذه الانقسامات الأيديولوجية العالمية داخل الدوائر الدينية، حيث سيحاول التقليديون المتشددون استعادة السيطرة من الإصلاحيين الذين التفّوا حول البابا فرنسيس.