فى قلب مدينة الفاتيكان، خلف أسوارها التاريخية وجدرانها المذهّبة، تتكرر واحدة من أقدم الطقوس الدينية وأكثرها رهبة وهى انتخاب البابا الجديد، رأس الكنيسة الكاثوليكية، هذا الحدث لا يُعدّ مجرد انتقال للسلطة الروحية، بل هو احتفال مهيب محمّل بالرموز والتقاليد التى تعود لمئات السنين.
وأعلن الفاتيكان، فى بيان مصور الاثنين، وفاة البابا فرنسيس، أول زعيم من أمريكا اللاتينية للكنيسة الكاثوليكية، لينقضى عهد مضطرب اتسم فى الكثير من الأحيان بالانقسام والتوتر فى سبيل سعيه لإصلاح المؤسسة العريقة، وأطلق فترة حداد تستمر 9 أيام وبداية عملية انتخاب بابا جديد خلال أسبوعين إلى 3 أسابيع.
البابا ليس فقط الزعيم الدينى للكاثوليك حول العالم، بل هو أيضًا أسقف روما، وخليفة القديس بطرس، أحد أبرز تلاميذ المسيح وأول من جلس على "الكرسى الرسولى"، من هنا، تنبع مكانة البابا كرمز دينى عالمى يتجاوز الحدود الجغرافية، ليصبح صوته مسموعًا فى القضايا الأخلاقية والسياسية الكبرى.
عند وفاة البابا، أو فى حال استقالته – كما فعل بنديكتوس السادس عشر عام 2013 – تدخل الكنيسة الكاثوليكية فى حالة تُعرف باسم "Sede Vacante"، أى "الكرسي الرسولى الشاغر"، تُعلن هذه المرحلة بحزن، وتُقرَع أجراس كاتدرائية القديس بطرس، ويُنكس علم الفاتيكان، وتُغلق الشقق البابوية بالشمع الأحمر، في دلالة رمزية على نهاية عهد وانتظار قائد جديد.
خلال هذه المرحلة، يُجمَّد عمل بعض المناصب العليا في إدارة الفاتيكان، وتُمنع أي قرارات كبرى لضمان شفافية عملية الانتخاب، ولا يُسمح لأي جهة بالتأثير على القرار التاريخي الذي سيتّخذه مجمع الكرادلة.
يتولى الكاردينال المعروف بـ"الكاميرلينغو" مسئولية إدارة الشئون الإدارية والمالية للفاتيكان خلال هذا الفراغ، رغم أن سلطته لا تشمل الجوانب الروحية أو التشريعية، إلا أن دوره محوري في الحفاظ على استقرار الدولة المصغّرة حتى يتم انتخاب البابا الجديد، واليوم، يشغل هذا المنصب الحسّاس الكاردينال الإيرلندي كيفن جوزف فاريل.
بعد الإعلان الرسمي عن شغور الكرسي البابوي، يبدأ التحضير لـ"الكونكلاف"، أي "المجمع السرّي"، حيث يجتمع الكرادلة من مختلف أنحاء العالم في كنيسة السيستينا داخل الفاتيكان، في سرية تامة، لا يُسمح خلالها بأي تواصل مع العالم الخارجي.
وتستمر الجلسات حتى يتم التوصل إلى توافق يُعلن فيه انتخاب البابا الجديد، يتم حرق أوراق التصويت بعد كل جلسة، وإذا لم يُنتخب أحد، يُضاف إلى الحريق مادة تعطي دخانًا أسود، إشارة إلى أن التصويت لم يُثمر بعد، أما الدخان الأبيض، فهو البُشرى "Habemus Papam" لقد أصبح لدينا بابا.
كل تفصيلة في هذا المشهد المهيب يحمل دلالات رمزية، من لحظة التأكد من الوفاة أو الاستقالة، إلى غلق الشقق، إلى جلسات الانتخاب... كلها طقوس تسرد قصة الكنيسة، وحكمتها الطويلة في إدارة انتقال السلطة الروحية في هدوء واتزان.