على درج أو سلالم مبنى الكلية المرموقة الاقتصاد والعلوم السياسية التقيته صاعدا الى الدور الرابع حيث المكان الذى تشغله كلية الاعلام بجامعة القاهرة منذ تأسيسها كأول كلية للاعلام فى مصر والشرق الأوسط عام 74 وحتى انتقالها للمبنى الجديد بعد ذلك بعشرين عاما تقريبا. صافحته غير مصدقا أن هذا الرجل هو ذاته الذى يصدح صوته الشجى العذب والدافئ مساءا فى اذاعة البرنامج العام يوميا فى برنامجه البديع " لغتنا الجميلة" بمقدمة رائعة لبيت الشعر المعروف لشاعر النيل حافظ ابراهيم تتحدث فيه اللغة العربية عن نفسها وبصوت الاعلامية الرائدة صفية المهندس :"أنا البحر فى أحشاءه الدر كامن...فهل سائلوا الغواص عن صدفاتي"
نظر الى ببشاشة محببة وابتسامة مشرقة مرحبا بى .أبديت له اعجابى الشديد ببرنامجه الذى أتابعه مساء كل يوم وأسبح عبر نبرات صوته الرقيق بين أبيات الشعر القديم والحديث.
لم أصدق أنه فاروق شوشة الذى أصبح مجرد ذكر اسمه مرادفا تاما للغة العربية وروعتها وجمالها، وأحكى لأصدقائى فى بلدتنا متفاخرا أننى التقيه فى كلية الاعلام وأصافحه وأتبادل معه كلمات سريعة مقتضبة حول برنامجه وشعر الفصحى ودواوينه الشعرية.
عرفت أنه كان ضمن نخبة من مشاهير اللغة العربية والاذاعة المصرية والفن مثل الاستاذ الاعلامى صبرى سلامة والفنان عبد الوارث عصر يحاضرون لقسم الاذاعة والتليفزيون بالكلية فن الالقاء. كان ذلك فى بداية الثمانينات بالتحديد فى عام 82 وهو العام الأول لى بكلية الاعلامجامعة القاهرة التى كانت الكلية الوحيدة المتخصصة فى تدريس الاعلام بأقسامه فى مصر قبل أن يصبح فى جامعتنا العامة والخاصة حاليا أكثر من 60 كلية ومعهد للاعلام..!!
لم أجرؤ خلال مقابلته بالصدفة سواء أثناء صعوده أو هبوطه على على سلالم الكلية أو داخل ممر الكلية الوحيد الذى يتكدس فيه الطالبات والطلبة، أن أتجاوز فى الحديث معه بعيدا عن السلام والاطمئنان على صحته والسؤال عن برنامجه. كانت تبدو عليه الهيبة والفخامة التى استمدها من عشقه للغة العربية رغم تواضعه وابتسامته الرقيقة التى لا تفارقه وبشاشته فى وجه كل من يقابله أو يسعى لمصافحته. كنت حريصا على حضور ندواته الشعرية داخل الكلية أو خارجها لأتأمله فى القاءه البديع لأبيات شعره أو تقديمه للندوات الشعرية.ترددت كثيرا فى الاقتراب منه وحافظت على تلك المسافة النفسية الواجبة بين التلميد والأستاذ وبين متذوق للشعر وشاعر عملاق يكفى ذكر اسمه أن تحترس عند الحديث معه باللغة العامية فهو فارس اللغة العربية وسلطان العاشقين لها..!
هكذا استمر هذا الاحساس لا يفارقنى لسنوات طويلة كلما التقيته بالصدفة أو أستمع اليه فى الراديو والتليفزيون أو فى الندوات الشعرية وبقيت صورته النمطية لرجل ذو هيبة ووقار حتى قابلته وجلست اليه قبل وفاته بعام واحد واحد فقط وكان لقاءا مدهشا وصادما ومفاجئا لي..!
فى مثل هذه الأيام رحل عن دنيانا فاروق شوشة – ولد فى 9 يناير بدمياط عام 1936 ورحل فى 14 ابريل عام 2016- وقبلها بعام وعدة أشهر تقريبا فى نوفمبر من العام 2015 التقيته فى استراحة كبار الزوار بمطار دبى مغادرا الى القاهرة بعد حضوره بعض فعاليات معرض الشارقة بالكتاب ومعه الأديب والروائى محمد المنسى قنديل.
اقترب منه بحذر وبذات احساس الخوف العميق الساكن بداخلى منه وطلبت منه التقاط صورة تذكارية مع الأستاذ المنسى قنديل. وجلست بالمقعد المجاور له قدمت نفسى له وذكرته بكلية الاعلام وخوفى الدائم منه بسبب " اللغة العربية". أطلقة ضحكة طفولية جميلة ومفاجئة . شجعنى على استمرار الحوار بيننا وسألته : هو انت دايما يا أستاذنا تنام وتصحو وتعيش وتتنفس باللغة العربية ..؟
ضحك للمرة الثانية الضحكة ذاتها قائلا:" ازاى يعنى . لا أن انسان عادى أعشق مهنتى ولغتى الاثيرة لكننى أتحدث أيضا اللهجة العامية وأعشقها.
- أنا فاكر يأستاذ حلقة من برنامجك " أمسية ثقافية" فى التليقزيون فى القناة الثانية وكان ضيوفك الخال عبد الرحمن الأبنودى والشاعر الكبير أمل دنقل
- أنا عاشق أيضا للعامية وكتبت أغانى بالعامية بس مش كتير
جملته الأخيرة كانت مفاجئة للغاية لى :" معقولة يأستاذ فاروق . انت بتتكلم جد"
ضحك مرة ثالثة ورابعة دون توقف :" انت ما تعرفش انى كتبت أغنية صباح الشهيرة " والله واتجمعنا تانى ياقمر" وكتبت أغانى لمطربة جزائرية لم تستمر كثيرا فى مصر.
تدفق الحديث بيننا وكأننا أصدقاء قدامى التقيا بعد أن تقطعت بهما السبل فى دروب الحياة. وحكى لى كيف كتب أغنية صباح. وأصغيت باهتمام شديد للحكاية
فى سنوات الستينات الأخيرة غادرت صباح القاهرة واستقرت فى بيروت. شائعات كثيرة ترددت حول أسباب مغادرتها وخروجها من مصر، منها ما قيل عن منع الرئيس عبد الناصر لها بسبب علاقتها مع مغنى اسرائيلى وسحب الجنسية المصرية منها، ومنها ما قيل عن أزمتها مع مصلحة الضرائب المصرية ومطالبتها بمبالغ مالية كبيرة اضطرت على آثرها مغادرة مصر.غياب صباح كان مثار تساؤلات كثيرة ومطالبات بضرورة عودتها.
داخل مكتب الاذاعى جلال معوض كبير المذيعين بالاذاعة المصرية فى مبنى ماسبيرو وصاحب البرنامج الشهير " أضواء المدينة" وفى حضور الموسيقار محمد الموجى ، جرى الحوار بين الاثنين عن ضروة عودة صباح ومشاركتها فى حفلة أضواء المدينة القادمة . يرفع معوض سماعة التليفون للاتصال بالشحرورة فى بيروت راجيا منها العودة والمشاركة فى الحفل..وأمسك الموجى السماعة وبكى بشدة وهو يرجوها العودة، وكانت هى الأخرى تبكى على الجانب الآخر.. " كنت حاضر الحوار والمكالمة المؤثرة للغاية بين معوض والموجى وصباح. وتحدث معوض عن ضرورة التفكير فى أغنية العودة مرة أخرى للقاهرة . استئذنت من الاستاذ جلال وخرجت لأقود سيارتى لزيارة أحد الأصدقاء فى مصر الجديدة ، وأنا أفكر فيما دار وكيف تعود صباح بعمل يعكس الحب والاشتياق لمصر .وفكر فى كيفية رجوع الشحرورة. "
فجأة وأمام عمارة رمسيس بالميدان الشهير توقفت بالسيارة على جانب الطريق، ووجدت نفسى أكتب «والله واتجمعنا تانى يا قمر.. والله واتجمعنا واحلو السهر»، وفى اليوم التالى ذهبت الى مكتب جلال معوض وقدمت له الأغنية وفرح بها وصرخ بأن هذه الأغنية ستغنيها صباح، وطلب الموجى ليلحنها ويسمعها لصباح تليفونيا وتم الاتفاق على العودة. سألنى جلال معوض عن ضاحب الأغنية فقلت له، إنه أحد الأصدقاء.. وأمام إصرار جلال معوض لصرف مكافأة للمؤلف والملحن والمغنية، اعترفت له بأنى من كتبتها..!فاندهش معوض، لأنه يعرف أننى أكتب بالفصحى، وكانت الأغنية سببا فى عودة صباح وغنتها فى حفلة أضواء المدينة على مسرح جامعة القاهرة بقاعة الاحتفالات الكبرى يوم 30 ابريل عام 74.
لم تكن تلك هى القصة المدهشة التى حكاها لى ..فقد اختارته كوكب الشرق أم كلثوم لتقديم احدى حفلاتها بمسرح الأزبكية- المسرح القومى فيما بعد- المذاعة عبر محطات الاذاعة
فاروق شوشة قدم الست فى حفلة 7يناير عام 65 على مسرح الأزبكية. ولم يتجاوز عامه ال 29 وينضم الى كوكبة كبيرة من من عمالقة الاذعة الذين قدموا أم كلثوم فى حفلاتها منهم كروان الإذاعة محمد فتحى وفهمى عمر وجلال معوض وفايق فهيم وحسنى الحديدى وعبد الوهاب يوسف وأحمد فراج وصلاح خليفة وصلاح مبروك وفاروق شوشة وحمدى قنديل وأحمد فراج وصالح مهران وهمت مصطفى
فى ذلك الزمن كان صوت المذيع هو " الكاميرا الصوتية" التى تتلقاها الأذن فتسكن فى القلب وتتخيلها الأعين.وكانت كوكب الشرق تقدر مذيعى حفلاتها، من لم تعتبره صديقًا، كان يحظى على الأقل بكلمات مداعبة قبل بداية الحفل، أو حتى بابتسامة من سيدة الغناء، فأصواتهم هى مواكب الشرف ومحمل القداسة للتجلى والابداع من الست، إلى القاصى والدانى من المحيط إلى الخليج.
يعبر المذيع على الكلمات والشاعر، واللحن والملحن سريعًا، ثم يخصص بقية الوقت للتأكيد على أن النغم الخالد هو صوت أم كلثوم باى كلام وبكل الكلام بحشوه وزخرفه الملون. بعض الحفلات كانت تتشرف بحضور عبد الناصر منفردًا، أو مع ضيف من ضيوف مصر.
كان لابد أن يتم تقديمها بالشكل اللائق بها على المسرح وعبر الإذاعة المصرية من خميس كل شهر. الذاكرة المصرية استعادت مع إذاعة الأغانى فى السنوات القليلة الماضية "طقس حفلات أم كلثوم " ومقدموها من كبار ومشاهير المذيعين وما كان يقومون به من وصف بديع ورائع يعكس جو الحفلة بالمتفرجين وبالفرقة الموسيقية وبالست نفسها وما ترتديه ولا مانع من مزج كل ذلك بزمن القومية العربية وبعض من سيرة الزعيم عبد الناصر خاصة فى حالة حضوره حفل الست وما أكثره من حضور.
مقدم حفل أم كلثوم لم يكن يخاطب الوجدان المصرى فقط بل كان عليه أن يتحمل مسئولية دغدغة المشاعر والوجدان العربى من المحيط إلى الخليج فزعامة ام كلثوم الفنية كانت تعادل زعامة ناصر السياسية. هيكل مع ناصر رادفه جيش من كبار المذيعين إلى جوار " الست"
اختارت أم كلثوم عاشق اللغة العربية فاروق شوشة بنفسها بعد أن استمعت اليه مرات فى الاذاعة وسألت عنه كبار الاعلاميين. فى تلك الحفلة شدت كوكب الشرق من حديقة الأزبكية بثلاث وصلات غنائية، غنت خلالها أغنيات "للصبر حدود" و"أراك عصى الدمع"، "سيرة الحب"، قدم فاروق شوشة أيضا آخر حفلات الموسيقار فريد الأطرش فى مصر والتى شدا خلالها برائعته "عش أنت" من كلمات الأخطل الصغير بشارة الخورى.
فى ذكرى رحيله التاسع مازالت اللغة العربية تفتقد أحد عشاقها الكبار وسلطان الزاهدين العابدين فى محراب لغتنا الجميلة وفارسها الذى ترجل ، وصاحب أحد أجمل برامجنا الاذاعية «لغتنا الجميلة» على مدار 50 عاما