مما لا شك فيه أن القضية السيبرانية باتت تفرض نفسها بقوة على الساحة الدولية، في ظل اختراقات كبيرة شهدتها عدة دول حول العالم، واتهامات متبادلة بين القوى الكبرى والأخرى الصاعدة بالتدخل في شؤونها الداخلية اعتمادا على تلك الآلية، وربما أبرز ما يتبادر إلى الذهن في هذا الإطار حديث الديمقراطيين في الولايات المتحدة عن دور روسي في فوز الرئيس دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية في عام 2016، خاصة وأنه جاء على عكس التوقعات والتحليلات والغالبية العظمى من استطلاعات الرأي على حساب منافسته هيلاري كلينتون والتي كانت تحظى بالخبرة السياسية بحكم المواقع التي شغلتها، سواء داخل البيت الأبيض، عندما حلت كسيدة أولى لثماني سنوات إبان حقبة زوجها بيل، أو خلال وجودها في منصب وزيرة الخارجية لأربعة سنوات، كانت ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما الأولى، ناهيك عن خوضها تجربة انتخابية غير مكتملة، خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في مواجهة أوباما نفسه في عام 2008، مما جعل صعود الرئيس ترامب إلى المنصب محلا للكثير من التساؤلات والتي عززتها مواقفه التي تبدو أقل عدائية تجاه موسكو مقارنة بأسلافه من الحزبين.
ولكن بعيدا عن حقيقة ما جرى في تلك الحادثة وغيرها من أحداث أخرى هزت العالم جراء اختراقات نجم عنها تسريبات مدوية، فإن القضية السيبرانية لا يمكن حصرها فقط في الاختراقات وعمل "الهاكرز"،والتي يمكن مواجهتها مؤسساتيا في العديد من دول العالم عبر برامج وأجهزة متخصصة، وإنما تحمل مسارا آخر يدور في جوهره حول الوعي السيبراني، وهو ما يتراوح بين المسؤولين تارة والقاعدة العريضة للمجتمع تارة أخرى، في ظل ما قد ينجم عن حالة نقص الإدراك والحذر عند استخدام التكنولوجيا الحديثة من كوارث ربما تفوق في تداعياتها ما ينجم عن نظريات المؤامرة والقائمة في الأساس على التدخل المباشر من قبل دولة ما في شؤون دولة أخرى، وهو ما تجلى في أحدث صوره في قضية تطبيق سيجنال الأخيرة، جراء خطأ ارتكبه فريق الأمن القومي في الولايات المتحدة بضم رئيس تحرير أحد الصحف إلى مجموعة تضم كبار المسؤولين لمناقشة خطط عسكرية، وذلك بالرغم من الدرجة الأمنية العالية التي يحظى بها التطبيق لحماية المحادثات التي تجرى عليه، في صفعة مبكرة، للإدارة التي لم يمر على ولايتها ثلاثة أشهر.
الخطأ الذي ارتكبه مسؤولون كبار في إدارة دولة هي الأكبر في العالم، رغم افتراضية الحذر الناجم عن سرية وخطورة ما يتداولون، ربما يسلط الضوء على القاعدة المجتمعية العريضة، وهنا لا أقصد في الولايات المتحدة فقط وإنما في كافة دول العالم في ضوء انكشاف معلومات المستخدمين، وإعلان مواقفهم وميولهم في مختلف القضايا عبر منصات التواصل الاجتماعي، مما يمكن من استخدامها كسلاح للتوجيه والحشد ضد مصالح بلدانهم وقضاياهم، سواء ذات الطابع الوطني أو القومي، عبر بث الفرقة ونشر الفوضى.
ولعل استخدام السوشيال ميديا، في هذا الإطار ليس بالأمر الجديد تماما، فقد سبق وأن كان الشرارة التي اندلع منها ما يسمى بـ"الربيع العربي"، في منطقتنا بهدف تحقيق أهداف قوى أخرى سعت إلى إعادة رسم خريطة المنطقة بأسرها، بينما امتدت نيرانها إلى الغرب نفسه عندما كانت وسيلة جماعات الإرهاب في حشد الموالين لهم فكريا ودفعهم نحو القيام بعمليات داخل دولهم، وهو الأمر الذي تجاوزته الدول مرحليا بعدما دفعت أثمان باهظة، سواء بالفوضى والانقسامات أو بأرواح الضحايا هنا أو هناك، وكانت معركة الوعي جزءً لا يتجزأ من المعركة التي خاضتها الدول عبر تصحيح المفاهيم، سواء فيما يتعلق بالسياسة والاقتصاد أو حتى ما يتعلق بالدين، وهو ما ساهم في تقديم حلول للأزمات الآنية، دون إبطال مفعول القنبلة التكنولوجية في ضوء غياب الوعي السيبراني لدى العامة، وهو ما يمثل التحدي القائم والقادم بقوة في ضوء العديد من المعطيات، وذلك إذا ما أرادت الدول مجاراة التطور السريع والمذهل في أدوات التكنولوجيا الحديثة
وفي الواقع لا يمكننا النظر إلى قضية الوعي السيبراني في اللحظة الراهنة دون أن نضع في الاعتبار العديد من الأبعاد، أبرزها التطور الكبير في الأدوات السيبرانية واتساع قاعدة المعلومات المتاحة عن المستخدمين، جنبا إلى جنب مع التغيير الكبير في التوجهات التي تتبناها القوى الدولية الكبرى، والتي باتت تستحل ما كان محرما قبل شهور معدودة في القواعد الدولية والأعراف العالمية، على غرار دعوات الرئيس ترامب المتواترة لضم أراضي الدول الأخرى لتصبح تحت السيادة الأمريكية، على غرار كندا وجزيرة جرينلاند الخاضعة لسيطرة الدنمارك، في مشهد يعيد إلى الأذهان الحقبة الاستعمارية ولكن بعيدا عن استخدام القوة العسكرية، والتي لا يميل لها الرجل، بسبب تكلفتها الباهظة في المقام الأول، بالإضافة إلى ما قد يترتب عليها من خسائر كبيرة، سواء في الأرواح أو حتى فيما تحظى به واشنطن من تأثير دولي كبير، وهو ما تجلى في تجاربها القريبة في العراق وأفغانستان.
وهنا تصبح الحاجة ملحة لآليات أخرى، لتطبيق سياسة الضم التي تتطلع إليها واشنطن، وربما تمتد إلى قوى أخرى، ربما عبر عنها الرئيس ترامب بحديثه عن شراء جرينلاند، وهو ما لا يبدو مقبولا وطنيا أو على المستوى الإقليمي في الإطار الأوروبي أو حتى على المستوى الدولي الكلي، وهو الأمر الذي قد يفتح المجال أمام تدخلات سيبرانية، قد تأخذ في جزء منها صورة الاختراقات الصلبة، بينما يبقى هناك توجها ناعما عبر استخدام المجتمع نفسه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، عن طريق الدعاية المناوئة للوطنية، أو استغلال أوضاع اقتصادية متراجعة أو حالة من الغضب الشعبي جراء سياسات معينة على غرار زيادة المهاجرين، تدفع أصحاب الأرض إلى الاستقلال عن حكوماتهم المركزية حتى وإن كان عن طريق الانضمام تحت لواء العلم الأمريكي، في ضوء انسجام المواقف تجاه بعض أو معظم القضايا التي تشغل الرأي العام.
إرهاصات تلك الحالة تبدو في محاولات تصدير الأزمات إلى العالم الخارجي، وهو ما تجلى في أبهى صورة في قرار الرئيس ترامب بفرض تعريفات جمركية لم تستثني أحدا في الكوكب، وهو الأمر الذي وإن كان يهدف إلى تحقيق الأرباح لأمريكا، لكنه في الوقت نفسه يضع الدول في مواجهة مباشرة أمام الشعوب جراء عجزها عن توفير الرفاهية التي اعتادوا عليها، مما يمهد الطريق لتشكيل نواه إلكترونية من داخل الدول للدعوة إلى الانفصال وربما الانضواء تحت السيادة الأمريكية، على الأقل كخطوة أولى نحو الاستقلال النهائي.
اختيارات الرئيس ترامب الأولية للتوسع الجغرافي الأمريكي كانت مدروسة إلى حد كبير، فقد اختار مناطق هشة، على غرار الجزيرة الدنماركية ذات النزعة الانفصالية مما يسهل مهمته في تحقيق ما أسميته في مقال سابق "سابقة" دولية يمكن تعميمها في المستقبل نحو مناطق أخرى بالعالم، في إطار رغبته في إحكام سيطرته أو بالأحرى هيمنته على العالم، بعدما تزعزعت الهيمنة في السنوات الماضية جراء ليس فقط صعود الخصوم (روسيا والصين)، وإنما أيضا بسبب تنامي نفوذ الحلفاء بصورة كبيرة إلى حد امتلاكها شرعية القرار الأمريكي على المستوى الدولي، وهو ما يبقى مرهونا بما تقدمه لها واشنطن من مزايا سياسية واقتصادية مما دفع الإدارات الأمريكية المتواترة خلال العقود الماضية للتحرك جماعيا، عبر إشراك الغرب حتى وإن كان ذلك اشتراكا شكليا، في العديد من الخطوات التي اتخذتها، بدءً من غزو العراق في إطار تحالف رمزي مع كلا من بريطانيا وفرنسا، وحتى الاتفاق النووى مع إيران، والذي ضم الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن إلى جانب ألمانيا، والذي ألغته إدارة ترامب الاولى سعيا لاتفاق مباشر.
وهنا يمكننا القول أن المعركة القادمة بقوة تتجلى في زيادة الوعي السيبراني، ليس فقط فيما يتعلق بالحذر من الضغط على لينكات مجهولة الهوية، قد تفضح خصوصيات أصحابها، وإنما أيضا في تعزيز قدراتهم على تنقيح وانتقاء الرسائل المقدمة لهم وأهدافها، مع تعزيز النزعة الوطنية، خاصة أن النماذج سالفة الذكر ليست الوحيدة التي يمكن النظر إليها خاصة مع دعوات مشابهة في مناطق أخرى تنتزع الأرض من أقاليمها الجغرافية أحيانا وتجرد السكان من أرضهم في أحيان أخرى.