بيشوى رمزى

الولاية الثالثة

الإثنين، 14 أبريل 2025 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا شك أن ثمة ارتباكا أمريكيا، في إدارة العلاقة مع العالم، في لحظة زاخرة بالأزمات الدولية العميقة، بين الغرب، والشرق، وهو ما يبدو في الحرب التي تشنها إسرائيل في الشرق الأوسط، والأخرى في أوكرانيا، بينما تبقى المواقف التي تتبناها واشنطن متغيرة، وغير مستقرة، وهو ما يبدو بصورة أكبر في الحالة الأخيرة (الأزمة الأوكرانية)، في إطار ما يمكننا وصفه بـ"الدعم" الأمريكي غير المسبوق لمواقف روسيا، على حساب الحلفاء في أوروبا الغربية، بينما تبقى الأمور كذلك، في الحالة الإسرائيلية، عبر إجبارها على مسارات معينة، منها القبول بوقف إطلاق النار، وعدم إعفائها من التعريفات الجمركية التي فرضت على العالم بأسره، وإن توارت في حقيقة الأمر خلف المشهد الكلي، والذي تبقى فيه واشنطن داعمة للدولة العبرية، على الأقل في إطار الوضع الراهن لدى الجانب العربي.

والارتباط بين المواقف الأمريكية فيما يخص الأوضاع السياسية الدولية، من جانب، ومشهد التعريفات الجمركية، من جانب آخر يبدو وثيق الصلة، فكلاهما الأساس الذي بنت عليه واشنطن قيادتها للعالم، عبر بناء معسكرها الخاص في الغرب، عقب الحرب العالمية الثانية، ثم قادت من خلاله العالم في أعقاب الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما تحقق عبر العديد من المبادئ، يمكن تلخيصهما في مسارين، أولهما اقتصادي، يدور في أحد محاوره الجوهرية، حول التجارة الحرة، والتي يقوضها الرئيس دونالد ترامب عبر تعريفاته الجمركية، والآخر دولي، قائم على قيادة الغرب، عبر مبادئ مشتركة، أبرزها الديمقراطية، والانطلاق منه نحو الهيمنة على العالم، وهو ما يعني أن السياسات الأخيرة تقويضا مهما للأسس التي وضعتها أمريكا نفسها، في إطار تفكيك المعسكرات الدولية، ناهيك عن إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي، والذي بات مرتبطا ببعضه البعض.

إلا أنه ثمة بعدا ثالثا، ربما يبقى مرصودا ولكن لم تتبين ملامحه بعد، يتجلى في الديمقراطية الأمريكية نفسها، في ضوء كونها أحد المراكز التي انطلقت منها القيادة الأمريكية، سواء في مرحلتها الأولى أو الثانية، عبر تعميم تجربتها على معسكرها الخاص، ثم فرض النموذج بعينه على العالم الخارجي، وهو ما تكلف ثمنا باهظا، وصل إلى حد الانغماس في الحروب العسكرية، في بعض الأحيان، دون تحقيق نتائج، وهو ما يرجع للعديد من العوامل المرتبطة بتقاليد الشعوب وثقافتهم، والبيئة المحيطة بهم، والتي لم تكن مؤهله على الإطلاق للانسجام مع الرؤى الأمريكية، التي لم تكن بالمرونة الكافية للتطويع بما يتناسب مع مختلف مناطق العالم، وهو ما يمتد إلى الاقتصاد أيضا.

الديمقراطية في أمريكا، شهدت منعطفات كبيرة مع ولاية الرئيس ترامب الأولى، تجلت في حرب تكسير العظام بين الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ملاحقة الرئيس شخصيا، عندما كان في السلطة، ثم بعد خروجه منها قضائيا وسياسيا، وحتى محاولة اغتياله، أثناء حملته الانتخابية، وهي المشاهد التي تعارضت مع الانسجام الكبير الذي شهدته السياسة الأمريكية لعقود، واستلهمته من ورائها دول المعسكر الغربي، إلا أن حالة "الانقلاب" على الديمقراطية، تشهد منعطفا حاسما بالحديث عن "الولاية الثالثة"، والتي تحدث عنها الرئيس بصورة تراوحت بين المزاح تارة والجدية تارة أخرى.

وفي الواقع، الرئيس ترامب لا يعرف المزاح، أو بمعنى أدق، فإن مزاحه يبدو تمهيدا لشيء ما، وهو ما بدا في المرة الأولى التي تحدث فيها مع رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، قبل التنصيب، عن ضم كندا، إلا أن المزاح تحول جد، وأصبح الأمر أحد أولويات الإدارة، بل وتجاوز الجوار الكندي نحو أوروبا الغربية، بالحديث عن جزيرة جرينلاند، الخاضعة لسيادة الدنمارك.

حديث الرئيس ترامب عن "الولاية الثالثة"، يبدو مرتبطا طبقا للسرد السابق، بالسياسات الأخرى، سواء الاقتصادية، وعلى رأسها التعريفات الجمركية، أو الدولية، والقائمة على تفكيك المعسكرات، والتخلي عن الغرب، فالبعد الاقتصادي من شأنه إثارة حرب اقتصادية، ذات نطاق عالمي، عبر سياسات "إفقار الجار" لتحقيق أكبر قدر من المكاسب للقوى العالمية الكبرى، وهو الأمر الذي يضفي المزيد من الشعبية للرئيس في الداخل، مما يسمح له بالخروج عن الأعراف الأمريكية، والتي تقوم في الأساس على عدم المساس بالدستور الأمريكي أو الالتفاف حوله، بينما يقوض في الوقت نفسه الاعتماد المطلق للغرب على واشنطن، وبالتالي تجريدهم من أكبر المزايا التي حظوا بها خلال عقود، لتحتفظ واشنطن بالهيمنة، ولكن ليس بصبغة غربية، من منطلق قيادتها للغرب، ولكن بصيغة أمريكية خالصة، في حين يبقى تقويض مفهوم الديمقراطية في ذاته سببا جوهريا في انحلال أحد أبرز الأسس التي قام عليها التحالف الغربي، وهي الأمور التي تروق في مجملها مع هوى الشارع الأمريكي، خاصة ما يتعلق بالتداعيات الاقتصادية المرجوة، والتي تتطلع إليها الإدارة الحالية، إلى جانب سياساته الأخرى القائمة على ملاحقة المهاجرين وإغلاق الحدود، وغيرها.

النتائج الاقتصادية في الداخل ليست المؤهل الوحيد لترامب، حتى يخوض "مقامراته"، والوصول من خلالها إلى "ولاية ثالثة"، وإنما التداعيات الدولية لها، في إطار اندلاع حرب عالمية جديدة، ذات طبيعة اقتصادية، خاصة وأن الصراع الاقتصادي، يمثل بديلا مهما في رؤية الرئيس الأمريكي للحروب التقليدية، والتي يرفضها لتكلفتها الباهظة، بالإضافة إلى كونها تتعارض مع خطابه الداعي إلى "صناعة السلام"، ولكنه في الوقت نفسه لا يمكنه التخلي عن نظرية "البحث عن صراع"، والتي تمثل في ذاتها ميزة يمكن من خلالها تعزيز القيادة الأمريكية للعالم، بينما على المستوى الشخصي يمكنها تعزيز خطته نحو "ولاية ثالثة"، استلهاما لتجربة الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت، والذي قادته الحرب العالمية الثانية نحو تجاوز الولايتين إلى أربعة ولايات.

وهنا يمكننا القول بأن سياسات الرئيس ترامب، سواء على مستوى السياسة أو الاقتصاد، تهدف في جزء كبير منها إلى تحقيق حلم "الولاية الثالثة"، والذي يساهم بدوره في تقويض أحد أسس النظام الذي أرسته واشنطن نفسها، والقائم على الديمقراطية العالمية، نحو نظام جديد، يقوم على الهيمنة الأحادية المطلقة ذاتية الشرعية، بعيدا عن الحلفاء، يمكن من خلالها إدارة العالم بإرادة منفردة، دون الحاجة إلى أي قوى أخرى، وهو الأمر الذي سيجد تحركات مناوئة، ستتشكل النتائج النهائية للمعركة الحالية طبقا لجديتها ونجاعتها، إما نحو نجاح رؤية ترامب السالفة الذكر، أو بتشكيل عالم متعدد الأقطاب.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة