هناك دلالات عديدة للموت، أولها، من التراث، الغراب، هكذا تجتر دعاء إبراهيم بروايتها "فوق رأسى سحابة"، الصادرة حديثاً عن دار "العين"، تلك الدلالة، تصوغها كبطل لافتتح موازى لمفتتح نصها الأصلي، تصدير ينعى بطلة النص التى تنتظر موتها، ثم يبدأ الافتتاح الحقيقى للنص طارحًا عزاءً لموتين، أولهم الموت، كما رواه الغراب، وثانيهما الأمومة، كما روتها الراوية ذاتها كنعيق موازى للغراب، الأمومة تموت بذلك الفصل الافتتاحي، "موت أول"، وتتحول لسلطة أبوية فى علاقة مضطربة بين الابنة وأمها بأزواجها المتعددين، بالبداية تقتفى الابنة أثر أمها الميتة بارتداء أحد قمصان نومها، كأنها تتلبسها، كراوية، فتسيطر حكايتها على الفضاء الدرامى قبل موتها الحقيقى بسيطرة موت المشاعر الطبيعية للأمومة.
هنا، بالفصل الأول "موت أول"، يظهر المجاز بعتبة النص كعزاء لفعل الموت، بمعناه المادي، كأن النص يطرح رؤيته حول ثنائية الواقع/المجاز بطرحه ذلك المجاز عن عزاءات الموت، أما الموت ذاته فيتشكل بجانب مادى فى ثنائية بين الراوية التى تعمل كممرضة يساعدها غرابها فى معرفة ميعاد موت المرضى وإنقاذهم، وبين شخصية روائية بحيوات معطلة، تبدأ بالأمومة المعطلة، ثم تضم قضايا المرأة فى المجتمعات المغلقة، مبتعثةً من السلطة الذكورية والأبوية بتلك المجتمعات، فتصف الراوية شعورها بالأنوثة المعطلة : "لم تكن سوى فترة طفولية تكبر فيها أجسادنا، وتبقى عقولنا صغيرة، لم أتذكر سوى الحماقات. لكننى توقفت عنها كلها بصورة فجائية،، ونسبتها كأنى لم أقم بأى منها،، كأن أتحدث عن مغامرات مدرسة الأولاد المجاورة، أو أن أضحك بصوت مرتفع مع زميلات المدرسة، حتى رغبتى فى مراقبة جسدي، داخل ملابس أمى الضيقة، راحت حيث لا عودة، انطفأ كل شيء"، هنا يقدم فعل الموت، بتصوره المجازى بين ثنائية الواقع / الخيال، الأنوثة، يستقطعها بعد تعرض الراوية للتحرش من خالها، وهجرة أبيها لليابان، وكأن كل شخوص النص وموجوداته تتكاتف حول موت أنوثتها، وموت شعورها تجاه الأمومة والحياة، برمتها، ما تصفه الراوية بضمير الأنا السردى مجترةً هوامش عوالم المرأة السرية، بنص يضم الهامش كهامش، لا يحوله لمركز، يعتبره، فقط، مجازات للحدث الدرامى المركزي، ربما يحاكى هذا شخصية النص التى تحيا بعدة هوامش، كونها امرأة بأحد المجتمعات المغلقة، وكونها عايشت الفراق بهجرة أبيها ونسيانه لها بعد زواجه من يابانية، وحتى عملها كممرضة يضعها على الهامش، وهو ما تقر به للشخصية نفسها مستغلةً صوتها السردي، انتصارها الوحيدة المجازى بالضرورة.
العلاقات الإنسانية هنا تشكل، بالأساس، الوقائع الدلالية للشخوص، تلك الدلالات التى ينفى بها النص، مستخدماً الموت، مفاهيم الجمال بكل الموجودات، فبالأساس هذا نص تُحرَم بطلته، فى هوامشها العديدة، من الأمومة والأمان والمركزية والحرية وحرية أخذ ثأرها من متحرش أبوى ومتسلط ذكورى كخالها، وحتى الأنوثة تُسلَب منها، والموت، بقتامته المعتادة، ينفى فعل الجمال عن الموجودات، ما يأوله النص ذاته كأنه يستنطق نفسه بسردية ضمير الأنا البطلة المقهورة: "لا تصدق جدتى أشياء كثيرة. حين أخبرتها وأنا فى الإعدادية أن القمر ليس جميلاً كما يبدو، تعجبت منى وحدجتنى بنظرة مفادها: "وأنتِ عرفتى منين؟"
ذلك المقطع السردى الذى يعد جزءًا من إحدى المرويات عن الجدة يكشف، أيضاً، موقع العلاقات الإنسانية من البناء الروائى لذلك النص، فهنا الراوية تشعر نحو الجدة بأمومة أكثر من أمها ذاتها، لكن؛ لما تفرضه الأم من سلطة ضمنية، لا تقدر على البوح بتلك المشاعر، ككل شئ لا تقدر على البوح به، إلا عبر سردية الرواية، كأن تلك الأطروحة تهب الفن تأويلا له، فبطلة النص تبوح، فقط، عبر الفن وفعل الحكى متمثلاً فى الصوت السردى فى الرواية، بما لا تستطيع البوح به كجزء من الهامش.
يستحضر النص نصوصًا موازية، انتصارا لسردية هامشية لسيدة مقهورة بحيوات أنثوية معطلة، تلك النصوص تمثل التراث، واستحضار النص للتراث يحدث لوجود "الغراب"، الذى ينذر البطلة من موت مرضاها، فتهبهم اللذة وتموت مكانهم، أحياناً، وتعيد إليهم الحياة كطبيبة، أحيان أخرى، كأن ذلك الغراب، دلالة الموت، يتحول لعنصر ينفى قتامته؛ لأنه يضع الممرضة، الراوية، فى مركزية إنقاذ الحيوات.. التراث هنا تراث ديني، حيث قصة قابيل وهابيل والترميز البدائى لثنائية الخير والشر، ولمفاهيم كاللذة، تلك الحكاية المستقطعة، غير المكتملة، التى تتوقف عند فعل الموت، سرعان ما يأولها النص، بخيال بطلة مأزومة، إلى رمز للشر بالمجتمعات المغلقة، قابيل سلطة ذكورية، وآدم اختار اللذة، لكن النص لا يتوقف هنا، ويصوغ الحكاية الدينية التراثية، دلاليا، بين ثنائية الخاص والعام، فيعيد صياغة مفاهيم عامة بها، اللذة وثنائية الخير والشر.
يتحول استحضار الحكاية التراثية من نظرة المجتمع والمفاهيم العامة إلى تأويل ذاتي؛ فتسرد الراوية قابيل كتجسيد لها، للذة، التى اختارتها بعد أن عانت منها من الأمومة المعطلة لأمها، والسلطة الذكورية الخال، هنا يظهر معنى ضمنى لبنية النص فى السرد بضمير الأنا، كانتصار لشخصية تصف ذاتها وتأولها، تتنتصر لذاتها كهامش، وتعيد صياغتها، تضع رأسها وحياتها المأزومة على حكاية دينية.
ذلك البناء الدرامى الموازي، علاقة الراوية برمزها، قابيل، الوحيد الذى يمثلها؛ لأنه أول من مارس إثم الموت، التى تمارسها الراوية بممارستها فعل القتل عندما يخبرها غرابها أن أحدهم سيموت فتعطيه جرعة دواء قاتل، كأنها، بتلك الطريقة، تنتقم من هامشها بفعل القتل، ذلك الفعل الإلهي، يظهر مع الفصل الثانى من الرواية "ميلاد"، الذى يعبر عتبته متمثلاً فى العنوان، "ميلاد"، عن تغير الصوت الضمنى السردى للراوية، يبدأ بطرح بتغيير الفضاء المكانى من مصر لليابان، وتبدل العلاقات الإنسانية لعلاقات مع زوجة أبيها وأبيها ومجتمع آخر، مجتمع يمارس النص به تعريف مفهوم المجتمع، بشكل عام، ويمارس به حيلة دلالية حول ثنائية التمرد/ الخضوع، التى تعيشها البطلة بعد سفرها، فتتمرد على إشارة المرور والملابس المتسعة، تتمرد على مفهوم المجتمع، على تقاليد مجتمع ملتزم ومحافظ حد أنه آلى كالمجتمع الياباني، وتتمرد حتى على شعورها بالاثم، بإقامة علاقة مع من شاطرها فعل القتل، قابيل، كأنه، المرة الأولى، يهبها عزاءً لحياتها المستقطعة وشخصها المأزوم بالحب المتزامن مع تمردها وتحررها، ذلك الحب، العزاء الشهير، يأتيها، كالعادة، من الموت، بالأحرى، القتل، يأتيها من شريكها فى ذلك الفعل، قابيل، الذى يصوغه النص كمروية أخرى، نافياً المروية الدينية المعتادة، كأنه يتمرد على الموروث كرمز لتمرده على المجتمع المغلق الذى عصف بسيدة بلا اسم، لشدة تهميشها، هى فقط امرأة لها حكاية، وهكذا هو الفن.. يروى النص قابيل كرمز للذة والاثم، نعم، لكن بصوت ضمنى متعاطف، كونه شريكاً للراوية، ويضيف على اللذة والاثم الحب، فيتحول قابيل لشخصية أسطورية تمارس فعل الاحياء لامرأة ميتة بالفعل، لكنها، ولأنها شخصية مأزومة بالأساس، يختفى الحب من حياتها بغياب مفاجئ للاستحضار الروائى لقبائل بذهابها للسجن، أيضاً، بفعل القتل، بعد اتهامها بقتل "تومودا سان"زوجة أبيها اليابانية، بعد موت أبيها، التى قتلته عندما أخبرها الغراب "سيموت اليوم"، الميتة التى تكشف رؤية الراوية له كأب بلا هوية، تتركهم يحرقون جثته على الطريقة اليابانية، تتركه يتجرد من الهوية المادية، كما جردها هو من هويتها بعد هروبه من الأبوة وتركه لها بمجتمع منغلق تحت وطأة سلطة ذكورية وأبوية يمارسها الجميل.
النص، كونه ممارساً ثنائية الواقع/الخيال، يبحث عن تجربة روائية تُعنَى بالتوازن بين الثنائية، والتوازن بين الشاعرية والبناء الدرامي، الوقائع، لغة الحدث، كأنه يجتر ثنائية جديدة موازية للأصلية، ثتائية المجاز (الشاعرية)/ لغة الواقعة الدرامية، ويوجد توازن بينهم، ذلك ما تبحث عنه دعاء إبراهيم فى مشروعها بداية من روايتها الأولى "لآدم سبعة أرجل"، وقبلها المجموعة القصصية "جنازة ثانية لرجل وحيد"، مروراً بمجموعة قصصية روايتين آخرين، "نقوش حول جدارية"، "ست أرواح تكفى للهو"، "حبة بازلاء تنبت فى كفي"، التى فازت بجائزة "الخطلاء".