حينما يتخلص الإسرائيليون من نتنياهو، حينها سيتم حل كل شىء، ولا يغرنك قولهم إن «نتنياهو» يحقق لإسرائيل كل ما تريده، فلا أهداف يمكن تحقيقها بشراهة واستعجال، وما يفعله بنيامين نتنياهو حرفيا هو تفتيت إسرائيل بشكل حقيقى ومتواصل، بل كل ما يفعله يساهم فى زوال إسرائيل سياسيا بشكل حقيقى، ويمكننا الاستدلال ببعض النماذج الواضحة، وأحدثها هو سحبه ترشيح رئيس الشاباك «الأمن العام» الإسرائيلى، بعد أن اكتشف أنه خرج فى مظاهرات ضده، وكتب مقالا ضد ترامب يهاجمه فيه، وخطوة سحب ترشيحه ليست بالسهلة على الإطلاق، فمعناها الرئيسى والجوهرى هو أن ترامب هو رئيس إسرائيل الحقيقى فى تلك الفترة، ونتنياهو هو سكرتيره فى تل أبيب، رغم أن نتنياهو كان يسعى لأن يعكس الوضع، فيدير هو الولايات المتحدة الأمريكية، بدلا من أن يدير إسرائيل ترامب، ومن جهة أخرى، فتحت خطوات نتنياهو الباب على مصراعيه أمام كل مؤسسات ومنظمات دول العالم، لتتحدث طبيعة التحركات الإسرائيلية، ووصل الأمر لمحاكمة إسرائيل فى العدل الدولية، والجنائية الدولية، والعفو الدولية، وكل المؤسسات الأممية تقريبا، وكلها اجتمعت على أن إسرائيل تمارس إبادة جماعية، بل ووصف أحد المؤرخين الإسرائيليين المشهورين بأن ما يفعله نتنياهو يهدد بزوال إسرائيل، بل ودخولها حربا أهلية، وتلك خسائر مباشرة وحقيقية على الأرض، لا تستدعى «السفسطة» حولها، بل إن كل إسرائيل السياسية تقف ضد نتنياهو، عدا اليمين المتطرف بطبيعة الحال، وهو الأمر الذى سيضع إسرائيل فى مأذق حقيقى لو اختفى نتنياهو، فلا يمتلك اليمين المتطرف البديل المناسب الذى يمكنه أن يستكمل المشروع المعلن منهم، فى القضاء على فلسطين والفلسطينيين.
من بين الأمور التى تقيد نتنياهو أيضا دون أن يدرى، هو ترديده يوميا عبارة «إعادة تشكيل الشرق الأوسط»، وزاد فى الأمر قوله إنه حقق ما كان يريده «هرتزل»، مؤسس الصهيونية، وهى كلها عبارات براقة فى شكلها، خطيرة عليه وعلى إسرائيل فى مضمونها، فهو فى الوقت الذى يعيد فيه تشكل وضعيته فى الشرق الأوسط، فتح الباب أمام الأطراف المضادة له بأن تقيس قوتها الإجرائية والنيرانية، بل إن بعض تلك الأطراف تستهدف تل أبيب يوميا، مثل الحوثيين فى اليمن، وحزب الله والإيرانيين قبل فترة الكمون الحالية، ولم يكن لهم أن يفعلوا ذلك إلا بفضل غباء نتنياهو، ورغم أنه يبيع للإسرائيليين بأنه قضى على قيادات حزب الله، وعلى رأسهم الراحل حسن نصر الله، فإنه لم يخبرهم بأنه سمح فى الوقت نفسه بتجديد القيادة فى تلك التنظيمات، وبالتالى هو حقق غاية كان يرغب فيها البعض من تلك التنظيمات، وجدد قيمة التضحية فى تلك التنظيمات، مما جعل التضحية هدفا أسمى لكل الأنساق تقريبا، بل وساعدهم فى اختبار قوتهم، ومراجعة خططهم، فالمعركة مع إسرائيل هى عقيدة عندهم، وبالتالى الأمر متروك لحين بينهما، وساعد على فرز الداخل فى كل دولة دخلت فى صراع مع إسرائيل فى الشهور الأخيرة، وأحرجهم بشكل فج وعلنى.
كما ساعد نتنياهو على كشف ازدواجية العالم، فالعالم الذى يزيف الحقائق ويضغط بملف حقوق الإنسان على كل الدول، هو العالم الذى شاهد الأمريكان يفرضون العقوبات على الجنائية الدولية، وعلى جنوب أفريقيا وغيرهم، لأنهم أقاموا دعوات وقضايا ضد إسرائيليين، وهو العالم الذى يرفض تطبيق عقوبات الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وغالانت وزير دفاعه السابق، كما ساهم نتنياهو فى تجديد الذاكرة وانعاشها حول بعض قضايا التاريخ لدى قطاعات كبيرة من الشباب، فالشباب صعب فى السيطرة عليه غير كبار السن، وبالتالى فتح نتنياهو الباب للمظاهرات التى انتشرت فى أوروبا والولايات المتحدة تحديدا، وفتح الباب أمام القراءة ومشاهدة الوضع الكارثى للفلسطينيين، سواء فى الضفة أو غزة، كما أن غزو جنوب لبنان فتح الباب بشكل أوسع أمام رؤية أكبر للشباب حول ما يفعله الإسرائيليون، وبالتالى تلك خسائر كبرى سقطت فيها غطرسة نتنياهو وجماعته، وكلها أمور تخاف منها إسرائيل بشكل حقيقى، وهى فكرة التاريخ الحقيقى، فلم تكن مرحلة صناعة التاريخ الموازى لديهم قد انتهت.
من بين الكوارث التى صنعها نتنياهو فى الشرق الأوسط، الذى يفخر بأنه أعاد هندسته، هو أنه دعم كل من يتخذ المقاومة وسيلة لتمرير قضاياه الداخلية، بل وساهم فى دفع شعبوى كبير لكل من يقف ضده، بل وكشف أيضا بعض الأطراف التى تقف معه فى نفس الصف، وبالتالى فهو قد خسر حلفاءه وأحرجهم على المدى الطويل، كما فضحت أزمة البيجر فى لبنان وسيلة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية فى اختراق كثير من صفقات التسليح حول العالم، مما يدفع كثيرا من الجيوش المنظمة أن تراجع أمورها الفنية فى كل الأسلحة الواردة من الخارج فى السنوات الأخيرة، كما كشفت ضربات إسرائيل ضد قيادات حزب الله بعض التكتيكات الخاصة بالقنابل الضخمة والثقيلة، مما يدفع الكثير من الجيوش المنظمة أن تعمق غرفها المحصنة فى أماكن يصعب الوصول إليها، وهى أيضا من الخسائر الكبرى التى كشفتها غطرسة جيش الاحتلال، بل وفعلت تحركات جيش الاحتلال لاستخلاص الدروس لكل الأطراف المضادة لإسرائيل، فقد تحركت إسرائيل كليا فى الحرب الأخيرة، مما جعلها كتابا مفتوحا يجب الوقوق حول كل خطوة قاموا بها وتحليلها بشكل علمى ومدروس.
كذلك ساهمت حرب الإبادة الجماعية ضد شعب فلسطين الشقيق فى الضفة وغزة، فى كشف طبيعة المعاهدات والقوانين التى يشارك فيها الإسرائيليون، وأثبتت التجربة أنهم بلا عهد أو التزام، فرغم وقوف كل دول الغرب ضد إسرائيل فى اقتحامها مدينة رفح الفلسطينية، وكذلك استهدافهم للمدنيين، فإن إسرائيل قامت بما تريده رغم كل قوانين العالم، ومطالبه بضرورة توقف جيش الاحتلال عما يفعله، حتى إن الأمين العام للأمم المتحدة وصف غزة بأنها مقبرة للأطفال، بالإضافة لآلاف التصريحات الرسمية على كل المستويات، تصف ما يفعله جيش الاحتلال وحكومته من جرائم حرب ضد أهل غزة والضفة، بل وزاد الجرم الإسرائيلى فى استهداف كثير من المنظمات الأممية، والشخصيات ذات البعد الدولى، وتعمل أجهزة الاستخبارات حاليا على استهداف كثير من الشخصيات التى تدعم القضية الفلسطينية.
أيضا ساهم نتنياهو بشكل واقعى وحقيقى فى كشف كثير من الجواسيس والدوائر الإسرائيلية، التى تعمل مع أطراف إقليمية ودولية، وهى قضايا يتم التحقيق فيها داخليا فى تلك الفترة، بل وساعدت خطواته فى فتح الباب أمام الولايات المتحدة الأمريكية لأن تقود إسرائيل فى تلك الفترة، ورغم اليقين الكامل بمدى العلاقات الاستراتيجية بين الدولتين، فإن هذا يقف عند حدود السيادة، وقد انتهكت تلك الحدود بينها فى عهد نتنياهو، وأصبحت الولايات المتحدة برجالها يقودون إسرائيل بكل ما فيها، وتحدث فى هذا الشأن عشرات الشخصيات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية والأمريكية، بل صنع هذا الأمر تقاربا من نوع خاص، وفى إطار سرى بين إسرائيل وعدة دول، تسعى خلالها إسرائيل أن تعطى فرصا وامتيازات لتلك الدول حتى تقف فى صفها بالمحافل الدولية، وهى إجراءات لم تكن لتفعلها إسرائيل لو لم يورطها نتنياهو فى ذلك.
من بين الأمور الكاشفة أيضا، التى يمكن الاستفادة منها فى أزمة نتنياهو وإسرائيل، أنه كشف بعض المخططات بشكل علنى، مثل ملف التهجير، وهو الملف الخطير للغاية، التى أدركته مصر من اللحظة الأولى، وبالتالى ساعد هذا الضغط فى كشف مخطط التهجير، وتطوير القدرات والخطط لمواجهته، بل وساهم فى تثبيت الكتلة الصلبة للدول المستهدفة بهذا المخطط، وحقق نتيجة عكسية، فقد تضافرت الدول والإقليم فى هذا الملف، مما زاد الأمر تعقيدا، خاصة مع صبر أهالى غزة طوال تلك الشهور على فكرة تهجيرهم بالقوة، كما أن نتنياهو بخطواته فى غزة قد أحدث انشقاقا داخليا فى الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانت غزة سببا رئيسيا فى تنحى بايدن، وسقوط الحزب الديمقراطى فى الانتخابات، فلو أن بايدن استطاع أن يبرم صفقة قبل تنحيه، لكان ذلك فرصة عظيمة لأن يفوز فى الانتخابات، إلا أنه تنحى وخسر، وترك الشارع الأمريكى لسياسات ترامب الجامحة، وهى السياسات التى تهدد العالم بأسره الآن.
من بين الأمور الجوهرية التى ساهم فيها نتنياهو دون أن يدرى، هو اختبار قيم الشعوب المتفاعلة مع القضية الفلسطينية، فلو أنك تردد دائما عبارات دون اختبارها، تظل محل نقاش، إلا أن حرب غزة ساهمت فى اختبار تلك القيم والعبارات، وهو ما فعله المصريون فى المساعدات، فقد وصل حجم المساعدات فى وقت من الأوقات لأكثر من 70% خارجة من الشعب المصرى، وهو ما يؤكد قيمة المصريين الحقيقية الداعمة للقضية الفلسطينية، وتلاها عدة خطوات آخرها المظاهرات التى خرجت بعد صلاة عيد الفطر، وكلها مؤشرات تثبت مدى التجاوب والتفاعل المصرى مع القرار الوطنى الداعم للقضية الفلسطينية.