ناهد صلاح

جودر.. الخيال يهندس الحدوتة

السبت، 08 مارس 2025 09:54 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كان لابد من أن أمر عليهما: شهرزاد وشهريار على ضفاف نهر دجلة في شارع أبو نواس. للمرة الثانية أسافر إلى بغداد ولا تفوتني زيارتهما، في الطريق إليهما مررت بساحة كهرمانة التي تفصل بين منطقتي الكرادة وشارع السعدون ورأيت التمثال الذهبي ل "كهرمانة" : فتاة تحمل جرة كبيرة تصب منها الزيت على أربعين جرة اختبأ فيها الأربعين لصا كما في الحدوتة الشهيرة "علي بابا والأربعين حرامي ". هنا بغداد مركز ال "الألف ليلة وليلة"، كتاب الحكايات العربية الأشهر، هنا في بغداد شرع الخيال وفتح أبوابه على القاهرة ودمشق وعالم الأعاجيب الإنسانية بأكمله، هنا ولدت الأسطورة وهنا تقف شهرزاد لا تجلس ولا تركع أمام شهريار الملك المهيب الذي يتكيء مضطجعا على مقعده، مسترخيا على منصة رخامية حمراء، ربما دلالة اللون تشير إلى دماء ضحاياه من النساء اللاتي قطع رؤوسهن ورقابهن قبل أن تأتي شهرزاد وتوقف نهر الدم، شامخة، مرفوعة الرأس، رافعة يديها لأعلى كما لو كانت تمارس طقسها الاستحواذي على الملك السعيد ذو الرأي الرشيد  وهو أمامها "كله أذان صاغية"، بينما هي تناديه:"مولاااااااي"، ممطوطة، منغمة ومفعمة بكل الدلال. هكذا رأيت تمثاليهما اللذين نحتهما شيخ النحاتين العراقيين محمد غني حكمت (1929-2011) في منتصف سبعينيات القرن الماضي  (1975)، وهو أيضا بالمناسبة الفنان الذي نحت تمثال كهرمانة في الساحة البغدادية الدائرية.

شهرزاد فى هذا النصب التشكيلي الجميل لافتة، تخطف الأبصار وتثير التساؤل: كيف وقفت هذه المرأة كل ليلة في لياليها الألف هكذا يقظة، تحكي حواديتها وتحافظ على ثباتها النفسي؟.. إنه أمر لا يتأتى إلا من امرأة ذكية، صلبة، تجيد لعبة الغياب والحضور،  امرأة إستطاعت في غمضة عين أن تغير شهريار اللاهي بالشراب والعذروات إلى طفل يسبح في زبد الغيب والخيال، بالحواديت نسجت له حبل التعلق فجلس عند قدميها يطيل التأمل في الحرف.

أعود من بغداد إلى القاهرة وأنا مترعة بأجواء الألف ليلة، أو هكذا هيأت نفسي لمشاهدة الجزء الثاني من " جودر" الذي يجود فيه كاتبه أنور عبد المغيث بخيال يتجاوز المعطيات إلى ابتكار الجديد والمجدد، خيال يعين مخرجه إسلام خيري لإنجاز صنيع فني يتنوع بتنوع عناصر الفنية التي تشيد عمارتها الجمالية والدرامية والفنية، ويهندس عناصر الصنعة التي تدفع إلى سبر أغوار ونفوس وحالات، هذا أمر في حد ذاته يصنع بهاء ورونقا يمتد إلى جمهور مختلف الأذواق والثقافات والتربية والمسالك والمفاهيم، لكنه يتأثر بالخيال القادر على الابتكار، والأهم المتمكن من إثارة نقاش وتفكير وتأمل وبحث دائم عن جديد في تاريخ حافل بنصوص وتفاصيل وحكايات وشخصيات وحالات وانفعالات، الخيال يسهم في قراءة أو إعادة قراءة هذا كله، في مواجهة الجمود والتقوقع والخراب الروحي والنفسي والفكري الطاغي.

"جودر 2" لا يواصل فقط ما بدأه في الجزء الأول ويأخذنا في مشواره الحافل بمصاعب كبيرة ومؤمرات أعدائه ومحاولات استخدامه للوصول إلى الكنوز الأربعة، إنما هي رحلة ثرية بمعطيات فنية بدأت بالكتابة واشتملت على عناصر فنية وظفها المخرج بحرفية ليتكامل العمل، جودر المصري يتوازى مع شهريار،  لكنك كمتلقي تستطيع بدون مجهود أن تدرك الفارق بينهما نع انه يجسدهما ياسر جلال، ممثل واحد تشبع بتفاصيل كل شخصية على حدة، طاقة تمثيلية كبيرة توزعت على فريق العمل: ياسمين رئيس، نور، وفاء عامر، تارا عماد، أحمد فتحي، جيهان الشماشيرجي، عايدة رياض و.. الأخرين، ثم اكتملت بالعناصر الفنية الأخرى من جرافيك إلى ديكور أحمد فايز المبهر والملائم للموضوع الدرامي، وكذا ملابس منى التونسي، موسيقى شادي مؤنس التي عززت الحالة الوجدانية للعمل إجمالا، أطلت من روح "شهرزاد" ريمسكي كورساكوف، لكنها تميزت كذلك بطابعها الخاص الطالع من دراما المغامرة والأكشن وغرائبية الحدوتة.

الكتابة إذن من أهم مقومات جودة هذا العمل الذي يشرد متفردا خارج سرب الدراما الرمضانية، سيما أنها كتابة مكثفة، تحتوي حوارا سلسا بدون مبالغة أو زخرفة يستخدمها أحيانا البعض للتعبير عن عالم الحواديت وتفاصيلها، أما عن بلاغة الصورة فهي مشغولة بحرفية ممتعة لا يكسرها الجرافيك والاشتغال التقني، بل يزيدها متعة ويورط المتفرج في الحدوتة بحيث يشتبك مع أبطالها.في رأيي  هذا نوع من التعاطي الإبداعي الذي يبلغ حد الجرأة أو تجاوز المألوف وكسر المعتاد، بما يطرح سؤال الفن والتقنيات الحديثة للإسهام في الخيال وكذلك المشاركة في صنع جماليات بصرية.

الصورة ومؤثراتها البصرية والسمعية منبثقة من خيال يقول ويبوح ويكشف ويتساءل ويحلل ويروي، نحن بصدد عمل كبير يعتمد على الخيال ويناقش في ذات الوقت أمورا كثيرة بروية، خيال مكترث بالوعي يبغي إعمالا للعقل، خيال مؤثر في الوعي الفردي والجمعي، يحرض على تنمية المشاعر وطرح الأسئلة والحث على البحث عن إجابات عنها، وهذا مهم في مناقشة مفهوم الخيال في صنع الأعمال الفنية.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة