عندما اتخذت الولايات المتحدة مسار التنمية في أوروبا، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عبر خطة مارشال، تبنت نهجا إصلاحيا، يفتح أفاق التنمية في القارة العجوز، بتطبيق نظام اقتصادي، من شأنه إعادة الإعمار، وتحقيق معدلات من النمو الاقتصادي، بينما في الوقت نفسه يحقق مصالحها، من خلال العديد من المسارات، ربما الأبرز أن تبقى وتيرة التنمية، صعودا وهبوطا، لدى حلفائها الأوروبيين تحت سيطرة واشنطن من خلال المزايا الممنوحة لهم، وهو ما يبدو في اللحظة الراهنة، والتي تتحرك فيه إدارة الرئيس دونالد ترامب، نحو تجريدهم تدريجيا من تلك المزايا، وما ينجم عن ذلك من تداعيات كبيرة، على اقتصاد أوروبا، في إطار الضغط عليهم، أو بالأحرى تركيعهم، لتحقيق الأهداف الأمريكية، التي امتدت نحو انتزاع السيادة من أراضيهم، على غرار المشهد في جزيرة جرينلاند الدنماركية، في إطار الجدل القائم حولها مؤخرا.
إلا أن ثمة مسارا آخر، في الخطة الأمريكية، تجاه أوروبا، في مرحلة ما بعد الحروب العالمية، وتجسدت في تصدير تجربتها، القائمة على الرأسمالية العالمية القائمة على مبادئ العولمة وحرية التجارة، من خلال الجات، والتي دشنت في عام 1948، وربط العملات بالدولار الأمريكي، من خلال مؤتمر "بريتون وودز"، في عام 1944 لتصبح المهيمنة على المناطق الجغرافية التي تحظى بقيادة واشنطن، في إطار "المعسكر الغربي"، وهو الأمر الذي تم تعميمه عالميا، بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، وقيام النظام الأحادي العالمي، القائم على القيادة الأمريكية للعالم.
والحديث عن التجربة الأمريكية وتصديرها في محيطها الدولي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كان بمثابة نقطة انطلاق مهمة، في إطار دبلوماسية واشنطن، نحو القيادة العالمية، فصارت قطبا في عالم ثنائي خلال سنوات الحرب الباردة، ثم أصبحت القطب الأوحد في أعقاب ذلك.
ولعل المقاربة المهمة في هذا الإطار، تتجلى فيما يتعلق بخطة إعادة إعمار قطاع غزة، والتي أعلنها ترامب، ليصبح امتدادا لدبلوماسية أمريكا التي اعتمدت في جزء كبير منها على النهج نفسه لتحقيق أهدافها الاستراتيجية من منطلقات إنسانية، بينما انتهى بها المطاف، إما للسيطرة الكاملة على مقدراتها، على غرار المشهد الأوروبي، أو الدمار والخراب، جراء عدم القدرة على علاج جذور الأزمات التي تلاحق دولها، وبالتالي غياب ما يسمى بـ"الاستقرار المستدام"، على غرار تجارب إعادة الإعمار في العديد من الدول حول العالم، منها العراق وأفغانستان، وهو ما دفع نحو تقديم خطة بديلة، صاغتها الدولة المصرية، وصبغتها بالهوية العربية، بينما حققت توافقا دوليا عليها، خلال القمة العربية الطارئة التي عقدت مؤخرا بالقاهرة.
الرؤية التي تتبناها الدولة المصرية، في إطار خطتها لإعادة الإعمار، لا تقتصر على مجرد تشييد المباني المدمرة، أو حتى تحويل الرماد الناجم عن القصف إلى قصور مشيدة في قلب منتجع سياحي، وإنما ترتبط في جوهرها بتحقيق الاستقرار ذات الطبيعة المستدامة، من خلال شق اقتصادي، يعتمد في الأساس مسارا تنمويا، من شأنه إشراك سكان القطاع في عملية الإعمار، وبالتالي انغماسهم في عملية تنموية من شأنها ليس فقط تحسين حياتهم، وإنما أيضا حمايتهم من أي محاولات لاستقطابهم في جماعات قد تهدد استقرار بلادهم، وشق آخر سياسي، يقوم في الأساس على تحقيق حالة من الإصلاح في الداخل الفلسطيني، ربما تجلت بوادرها مع إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس إعادة المفصولين من حركة فتح، بينما تتحرك الفصائل نحو المصالحة، والتي أصبحت خيارا وحيدا لا بديل عنه إذا ما أرادت الانتصار للقضية الأم.
في حين أن هناك شقا دوليا، يقوم على حشد التوافقات الدولية على ثوابت القضية، وهو ما تحقق فعلا إبان فترة العدوان الإسرائيلي على غزة، بينما تتحرك تحت المظلة العربية، لتحقيق التوافق على خطتها بشأن غزة، وهو الأمر الذي ظهر في طبيعة المشاركات، التي شهدتها القمة الطارئة الأخيرة، والتي جاءت في مجملها ممثلة عن معظم أقاليم العالم، بين أوروبا وأفريقيا، مرورا بالعالم الإسلامي، وما يتخلله من بعد آسيوي ممثل في الأساس من جانب الدول العربية الواقعة في القارة الصفراء، بينما حملت مزيجا مهما بين دول العالم الأول والثالث، ليجتمعا معا في قلب القاهرة للتوافق حول حقوق الفلسطينيين، مما يفتح حوار دوليا مع واشنطن حول مستقبل القطاع.
الرؤية المصرية تمثل في جوهرها جزءً كبيرا من تجربتها، أو بالأحرى تجاربها، سواء في الداخل، والتي شهدت إطارا تنمويا، يقوم في الأساس على تحقيق إصلاحات جوهرية، تعتمد بعدا سياسيا قائم على الحوار، ومجتمعيا من خلال تمكين كافة الفئات، في حين تستلهم جذورها في شراكات إقليمية ودولية ساهمت في تخفيف الحالة الصراعية بين العديد من القوى الإقليمية، من خلال نهج تنموي شامل يقوم على تعزيز المصالح المشتركة، وهو ما يمكن البناء عليه، دون سيطرة أو هيمنة من طرف على الأطراف الأخرى، وهو ما بدا واضحا في تقديم خطتها إلى العالم، في إطار عربي.
عبقرية خطة غزة تتجلى في كونها امتداد للرؤى التي سعت الدولة المصرية إلى تطبيقها خلال السنوات الماضية، وتمثل ثمرة تجارب عديدة وعميقة، تقوم في الأساس على ضرورة تحقيق حالة من الجماعية، سواء في إطار سياسي أو تنموي، لتحقيق الاستقرار المستدام، فتصبح التنمية هي السبيل لتخفيف حدة الأزمات.
وهنا يمكننا القول بأن إعادة الإعمار تمثل جهدا دبلوماسيا مهما لتحقيق شمولية الحل للقضية الفلسطينية، بدءً من الداخل الفلسطيني نفسه، مرورا لإدارة العلاقة بينها وبين العالم الخارجي، من خلال دعم ثوابت القضية كأساس للحل، وحتى البعد الاقتصادي، والذي يمكن أن يكون مدخلا للتعاون مع قطاع كبير من دول العالم، مما يساهم بصورة أو بأخرى في اكتساب التعاطف الدولي في مواجهة محاولات تصفية القضية.