فى قلب منطقة تحت الربع بالدرب الأحمر، تحافظ ورشة على صناعة عريقة يمتد عمرها لمئات السنين، وهي صناعة منتجات الأخشاب، إذ تجد أمامها كميات من جذوع الشجر المتراصة فوق بعضها البعض، ومنتجات خشبية تتنوع بين أطباق وملاعق وأورم الجزارين، بينما يظهر عدد من الرجال كل منهم على ماكينة خراطة وآلة مختلفة، يعملون بهمة وتركيز، يدًا بيد سعيًا وراء رزقهم، ويشكلون الخشب حسبما يريدون، بفن وإتقان وأنامل خبيرة.
خرط الخشب في الورشة
تعاقب على أقدم وأشهر ورشة خراطة أخشاب في الدرب الأحمر، أربعة أجيال ورثوا المهنة أبًا عن جد، ونجحوا بلمسات فنية متقنة ومجهود بدني كبير في تحويل جذوع الشجر إلى منتجات لها استخدامات متنوعة، فثمة عائلة تقف وراء شهرتها وتتمسك بها وتورثها للأجيال الجديدة لتحافظ عليها من الاندثار، حسب ما أكده محمد يونس، صاحب الورشة وأحد أبناء الجيل الثالث في المهنة، والذي اشتد بنيانه بها، يستيقظ مبكرًا، ثم يذهب إليها يفتح أبوابها أمام الرزق.

مراحل تصنيع المنتجات الخشبية
وبينما كان غبارًا كثيفًا متطايرًا من مناشير الخشب ومكن القص، يحجب عن العين الرؤية، قال محمد خلال حديثه لـ"اليوم السابع": "تعلمت المهنة منذ طفولتي، والدي كان حريصًا على أن نتعلم المهنة بكل تفاصيلها وأساسياتها منذ الصغر، ويشجعنا على أن نحبها ونخلص لها ونحافظ عليها بعدهم، ورغم أن الورشة كان بها عدد من الصنايعية، كان يوقظنا مبكرًا من النوم في فترة الإجازة ويصطحبنا إلى الورشة حرصًا على أن نصل مبكرًا ونتواجد في ساحة العمل قبل قدوم الصنايعية".
.jpeg)
أطباق خشبية
حرفة يدوية لا تزال صامدة بمراحل تصنيع شاقة، تحتفظ ببصمات أبناءها من المبدعين رغم تطور الحياة وتقدم العلم والصناعات: "صناعة منتجات الأخشاب، من الحرف اليدوية الصعبة، التي تحتاج لصبر وجهد وإتقان وحرفية ومهارة عالية، نتعلمها على مدار العمر، في ظل التغييرات التي تطرأ على السوق والتطورات الجديدة والمستمرة التي تفرضها تكنولوجيا العصر بما توجده من أدوات وآلات وماكينات جديدة متطورة مثل اللاوتر والليزر"، مؤكدًا: "حافظنا على المهنة وطورنا منها، دخل عليها حاجات كتير غير اللي احنا عرفناها واتعلمناها زمان، ولغاية دلوقتي لسه بنتعلم".

أورمة الجزارة
تغيرت منتجات الورشة من الهون والقبقاب إلى التحف والأطباق والشماسي بتعاقب الأجيال: "يقوم عمل الورشة على خراطة الأخشاب، بدأت بصناعة "الهون والقبقاب" في عهد جدي، وتطور عملها بعد ذلك في عهد والدي بصناعة "أورمة الجزار"، مشيرًا إلى أن "الأورمة" قديمًا كانت تجلب من الأرياف ويصنع لها ثلاثة أرجل عادية، أما الآن فقد تطورت صناعتها بالخرط وأصبحت تأخذ شكلًا مختلفًا ومميزًا ومناسبًا في ذات الوقت لعمل الجزارين".

الخشب المستخدم في التصنيع
يعتمد العاملون في المهنة على أنواع مختلفة من الخشب، ولكل نوع استخدامه الخاص: "مع مرو السنوات تطور عملنا وأصبحنا نصنع الأطباق والسلاطين وهون دق الثوم والكراسي وأطقم شماسي الشواطئ والمناضد وجميعها تباع للسوق المحلي، ونعتمد في التصنيع على أخشاب أشجار تجلب من الصعيد وبحري، فخشب السنط نصنع منه "أورمة" الجزار، واللبخ والسرسوع نصنع منهما الأطباق، والفيكس نصنع منه أطقم"، مصيفًا: "كل نوع خشب ربنا باعتله استخدام وصنعة معينة".
أحد العاملين في الورشة
لا تخلو مهنة خراطة الأخشاب من الصعوبات، فتتطلب بنية جسمانية قوية حتى يتمكن العامل من تشكيل الخشب وخرطه كما يريده الزبون: "العامل قبل أن يبدأ عمله على المنشار يتم تدريبه واختباره عدة مرات للتأكد من إجادة استخدامه والتعامل معه، فالعامل في بداية عمله في الورشة يمر على كل مراحل العمل، بدءًا من نقل وحمل الأخشاب، وعندما يثبت جدارته في مرحلة ما وتمكنه منها يكون مسؤول عنها".

أطباق خشبية
تعكس المهنة هوية "محمد" وأشقائه وأبنائهم، التي ورثوها أبًا عن جد ويحافظون عليها للأجيال القادمة: "تعد المهنة من أقدم المهن اليدوية المتوارثة، وأغلب العمالة من أصحاب الحرفة نفسها، فكل واحد يعلم ابنه ويورثه المهنة ليحافظ عليها من الاندثار"، مؤكدًا: "المهنة عريقة، وما يميز منتجاتها روح اليد المصرية وبصمته فيها".

خرط الخشب وتجهيزه
ظلت صناعة المنتجات الخشبية جزءًا من التراث الحرفي المصري، إذ انتقلت عبر الأجيال، محافظةً على أصالتها رغم التطورات التي طرأت عليها، هذه المهنة لم تقتصر فقط على توفير مصدر رزق، بل أصبحت جزءًا من هوية العائلات التي احترفتها، كما هو الحال في عائلة الحاج يونس، التي كرّست حياتها للحفاظ على هذا الإرث العريق.

تحف خشبية
نشأ أسامة حسن يونس وسط أجواء مفعمة بروح الحرفة، حيث تعلم فنون صناعة المنتجات الخشبية منذ صغره، مستلهمًا خبرته من الأجيال التي سبقته، ورث عن أجداده شغف المهنة وسعى للحفاظ على هذا التراث، مع تطويره ليتماشى مع متطلبات العصر: "بدأت هذه المهنة مع جدي يونس، الذي ورثها لجدي حسن، ثم انتقلت إلى والدي وأعمامي، وصولًا إلينا، هذه مهنة ذات تاريخ عريق يعود إلى قرون مضت، حيث تشير بعض الروايات إلى أن القباقيب الخشبية كانت تُستخدم منذ عهد شجرة الدر في الحمامات لحماية الأقدام، ومع مرور الزمن، تطورت الصناعة وأصبحنا نصنع منتجات عصرية مثل الأطباق والطاولات".

تصنيع المنتجات الخشبية
رغم أهمية الحرفة، إلا أن التعليم كان جزءًا أساسيًا من مسيرة عائلة يونس، حيث أدركوا أن الجمع بين العلم والمهنة يمنحهم مزيدًا من التميز والتطوير: "بدأت العمل في المهنة منذ الصغر، ولكن التعليم كان دائمًا أولوية، كان جدي يؤكد لنا أن التعليم سيحدث فارقًا كبيرًا في حياتنا، وبالفعل، فإن جميع أبناء جيلي حصلوا على تعليم جامعي، أنا خريج كلية الآداب، قسم علم الاجتماع بجامعة القاهرة، بينما شقيقي محمد خريج كلية الإعلام، وابن عمي تخرج في كلية التجارة بجامعة القاهرة، ورغم ذلك، لم يُجبر أحد منا على العمل في هذه المهنة، بل دخلناها عن حب ورغبة في استكمال إرث العائلة".

ماكينات وأدوات التصنيع
تعتمد هذه المهنة بشكل أساسي على الجهد البدني، إلى جانب المهارة الفنية، حيث تتطلب قوة بدنية كبيرة في التعامل مع الأخشاب، فضلًا عن دقة التصنيع: "العمال هم العنصر الأهم في هذه الصناعة، والأساس في تنفيذ العمل، دورنا كمسؤولين لا يكتمل دون جهودهم، فهم الذين يبذلون الجهد الأكبر، بدءًا من نقل الخشب وتقطيعه، وحتى تشكيله وإنتاج القطع النهائية، لذلك، فإن الفضل الحقيقي يعود إليهم، فهم القلب النابض لهذه المهنة".

تفصيل وخرط الخشب
تمر عملية صناعة المنتجات الخشبية بعدة مراحل، تبدأ من استلام الأخشاب الخام، ثم تقطيعها وتصنيفها، وصولًا إلى تشكيلها النهائي وفقًا لنوع المنتج المطلوب: "يبدأ العمل في الورشة من الساعة التاسعة صباحًا، حيث تصل الأخشاب الخام وتُنقل إلى ساحة العمل، ثم تُقطع إلى أحجام مناسبة، بعد ذلك، تُنقل إلى المنشار للتفصيل، ثم إلى المخرطة في حال كانت تحتاج إلى تشكيل دقيق، مثل الأطباق أو طقم الشماسي، وهناك أيضًا منتجات تحتاج إلى تركيب، مثل الأورم الخاصة بمحلات الجزارة، وتنتهي كل المراحل بالصنفرة والطلاء، كل مرحلة تُسلم الأخرى حتى يكتمل المنتج النهائي، ويستمر العمل حتى الساعة السابعة مساءً"، مؤكدًا: "مهنة مرهقة وصعبة.. قايمة على العتالة".

منتجات خشبية
تتمتع المنتجات الخشبية بمزايا عديدة، سواء من حيث الجودة أو الفوائد الصحية، حيث تُعد بديلًا صحيًا وآمنًا للمواد الأخرى مثل البلاستيك والألومنيوم: "الخشب ليس مجرد مادة خام، بل هو جزء من الطبيعة يحمل روحًا وطاقة إيجابية، عندما نصنع طاولة أو كرسيًا، نشعر بالسعادة لأننا نقدم شيئًا يضفي راحة على حياة الناس، الأطباق الخشبية أيضًا أكثر أمانًا من البلاستيك، حيث لا تتفاعل مع الطعام، وتدوم لفترات أطول، كما أن هناك أنواعًا مختلفة من الأخشاب تُستخدم لأغراض متعددة، مثل الخشب الصلب المخصص لألواح الجزارة، وخشب السرسوع المستخدم في الديكورات، وخشب الكايا الذي يجمع بين الاستخدامات المختلفة، بالإضافة إلى خشب الفكس واللبخ، الذي يُستخدم في إنتاج قطع ذات طابع جمالي خاص".

عمال ورشة الأخشاب
رغم تحديات المهنة، فإن الشغف والارتباط العاطفي بها هو ما يدفع الأجيال الجديدة إلى الاستمرار في حمل هذا التراث: "أنا سعيد بكوني جزءًا من هذه المهنة، وأمارسها عن حب وليس بدافع الضرورة، وأتمنى أن أنقل هذا الشغف إلى أبنائي، كما فعل والدي وجدي معي، بحيث تكون لديهم الحرية في الاختيار، تمامًا كما كنا، والأهم بالنسبة لي هو أن تظل ورشة جدي مستمرة، لأن هذا كان حلمه، وسأعمل على تحقيقه بكل ما أملك من جهد".
ورشة الأخشاب
تظل صناعة المنتجات الخشبية رمزًا للصبر والإبداع والارتباط بالتراث، فليست مجرد مهنة، بل قصة متجددة يرويها الحرفيون عبر الأجيال، يضيفون إليها لمساتهم الخاصة، ويورثونها لأبنائهم حبًا وشغفًا، لتبقى شاهدة على مهارة الإنسان في تطويع خامات الطبيعة وتحويلها إلى فن خالد.