غزوة بدر .. ما قاله محمد حسين هيكل في "حياة محمد" 1

الخميس، 13 مارس 2025 11:00 ص
غزوة بدر .. ما قاله  محمد حسين هيكل في "حياة محمد" 1 غزوة بدر
أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تمر اليوم ذكرى غزوة بدر الكبرى، تلك التي أكدت قوة النبي وأصحابه، وغيرت التاريخ للأبد، فقد انتصر المسلمون على أهل قريش، وتغير الوضع تماما، فما الذي حدث:

يقول الكاتب الكبير محمد حسين هيكل في كتابه حياة محمد":
 

خرج أبو سفيان بن حرب في أوائل الخريف من السنة الثانية للهجرة في تجارة كبيرة يقصد الشام، وهي التجارة التي أراد المسلمون اعتراضها حين خرج النبي — عليه الصلاة والسلام — إلى العُشَيرة. لكنهم إذ بلغوها كانت قافلة أبي سفيان قد مرَّت بها ليومين من قبل وصولهم إليها، إذ ذاك اعتزم المسلمون انتظارها في عودتها. ولما تحيَّن محمد انصرافها من الشام بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد ينتظران خبرها، فسارا حتى نزلا على كشدٍ الجهني بالحوراء وأقاما عنده في خِباء حتى مرَّت العير، فأسرعا إلى محمد ليُفضيا إليه بأمرها وما رأيا منها.

على أن محمدًا لم ينتظر رسوليه إلى الحوراء وما يأتيان به من خبر العير، فقد ترامى إليه أنها عير عظيمة، وأن أهل مكة جميعًا اشتركوا فيها، لم يبق أحد منهم من الرجال والنساء استطاع أن يساهم فيها بحظ إلا فعل، حتى قُوِّم ما فيها بخمسين ألفًا من الدنانير. ولقد خشي إن هو انتظرها أن تفوته العير في عودتها إلى مكة كما فاتته في ذهابها إلى الشام، لذلك ندب المسلمين وقال لهم: هذه عير قريش؛ فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها.
وخف بعض الناس وثقل بعض، وأراد جماعة لم يسلموا أن ينضموا طمعًا في الغنيمة، فأبى محمد عليهم الانضمام أو يؤمنوا بالله ورسوله.

أما أبو سفيان فكان قد اتصل به خروج محمد لاعتراض قافلته حين رحلتها إلى الشام، فخاف أن يعترضه المسلمون حين أوبته بعد أن ربحت تجارته، وجعل ينتظر أخبارهم. وكان الجهني الذي نزل عليه رسولا محمد بالحوراء بعض من سأل. ومع أن الجهني لم يصدُقه الخبر فقد بلغه من أمر محمد والمهاجرين والأنصار معه مثل ما ترامى إلى محمد من خبره؛ فخاف عاقبة أمره أن لم يكن من قريش في حراسة العير إلا ثلاثون أو أربعون رجلًا. عند ذلك استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه مسرعًا إلى مكة ليستنفر قريشًا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه. ووصل ضمضم من مكة إلى بطن الوادي فقطع أُذني بعيره وجدع أنفه وحوَّل رحله ووقف هو عليه وقد شق قميصه من قُبُل ومن دُبُر وجعل يصيح: يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها. الغوث الغوث!

وما لبث أبو جهل حين سمعه أن صاح بالناس من عند الكعبة يستنفرهم. وكان أبو جهل رجلًا خفيفًا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر، ولم تكن قريش في حاجة إلى من يستنفرها، وقد كان لكل منهم في هذه العير نصيب.

على أن طائفة من أهل مكة كانت تشعر بما ظلمت قريش المسلمين من أهلها حتى أكرهتهم على الهجرة إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة، فكانت تتردد بين النفير للذود عن أموالها والقعود رجاء ألا يصيب العير مكروه. وهؤلاء كانوا يذكرون أن قريشًا وكنانة بينهما ثأر في دماء تبادل الفريقان إراقتها. فإذا هي خفت إلى لقاء محمد لمنع عيرها منه خافت بني بكر (من كنانة) أن تهاجمها من خلفها. وكادت هذه الحجة ترجح وتؤيد رأي القائلين بالقعود، لولا أن جاء مالك بن جُعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. إذ ذاك رجحت كفة أبي جهل وعامر بن الحضرمي والدعاة إلى الخروج لدفع محمد والذين معه، ولم يبق لكل قادر على القتال عذر في التخلف أو يرسل مكانه رجلًا. ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب الذي بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها.

وكان أمية بن خلف قد أجمع على القعود، وكان شيخًا جليلًا جسيمًا ثقيلًا، فأتاه بالمسيجد عقبة بن أبي معيط وأبو جهل، ومع عقبة مجمرة فيها بخور ومع أبي جهل مكحلة ومرود فوضع عقبة المجمرة بين يديه وقال: يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء. وقال أبو جهل: اكتحل أبا علي فإنما أنت امرأة. فقال أمية: ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي، وخرج معهم؛ فلم يبق بمكة متخلف قادر على القتال.

أما النبي — عليه السلام — فقد خرج في أصحابه من المدينة، لثمانٍ خلون من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وجعل عمرو بن أم مكتوم فيها على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة. وكانت أمام المسلمين في مسيرتهم رايتان سوداوان، وكانت إبلهم سبعين بعيرًا جعلوا يعتقبونها، كل اثنين منهم وكل ثلاثة وكل أربعة يعتقبون بعيرًا، وكان حظ محمد في هذا كحظ سائر أصحابه؛ فكان هو وعليُّ بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرًا. وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرًا، وكانت عدَّة من خرج مع محمد إلى هذه الغزوة خمسة وثلاثمائة رجل، منهم ثلاثة وثمانون من المهاجرين وواحد وستون من الأوس والباقون من الخزرج. وانطلق القوم مسرعين من خوف أن يفلت أبو سفيان منهم، وهم يحاولون حيثما مروا أن يقفوا على أخباره. فلما كانوا بعرق الظبية لقوا رجلًا من الأعراب فسألوه عن القوم فلم يجدوا عنده خبرًا.

وانطلقوا حتى أتوا واديًا يقال له ذَفِران نزلوا فيه، وهناك جاءهم الخبر بأن قريشًا قد خرجوا من مكة ليمنعوا عيرهم. إذ ذاك تغير وجه الأمر. لم يبق هؤلاء المسلمون مهاجروهم والأنصار أمام أبي سفيان وعيره والثلاثين أو الأربعين رجلًا معه، لا يملكون مقاومة محمد وأصحابه؛ بل هذه مكة خرجت كلها وعلى رأسها أشرافها للدفاع عن تجارتها. فهَبِ المسلمين أدركوا أبا سفيان وتغلبوا على رجاله وأسروا منهم من أسروا واقتادوا إبله وما عليها، فلن تلبث قريش أن تدركهم، يحفزها حرص على مالها والدفاع عنه وتؤازرها كثرة عديدها وعُددها، وأن توقع بهم وأن تسترد الغنيمة منهم أو تموت دونها. ولكن إذا عاد محمد من حيث أتى طمعت قريش وطمعت يهود المدينة فيه، واضطر إلى موقف المصانعة، واضطر أصحابه إلى أن يحتملوا من أذى يهود المدينة مثل ما احتملوا من أذى قريش بمكة. وهيهات إن هو وقف هذا الموقف أن تعلو كلمة الحق وأن ينصر الله دينه.

استشار الناس وأخبرهم بما بلغه من أمر قريش؛ فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: "يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون" وسكت الناس.
فقال الرسول: أشيروا عليَّ أيها الناس. وكان يريد بكلمته هذه الأنصار الذين بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم ولم يبايعوه على اعتداء خارج مدينتهم. فلما أحس الأنصار أنه يريدهم، وكان سعد بن معاذ صاحب رايتهم التفت إلى محمد وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال سعد: "لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة؛ فامض لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدًا. إنا لصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ في اللقاء؛ لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.".

ولم يكد سعد يتم كلامه حتى أشرق وجه محمد بالمسرة وبدا عليه كل النشاط وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وارتحلوا جميعًا، حتى إذا كانوا على مقربة من بدر انطلق محمد على بعيره حتى وقف على شيخ من العرب وسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه، ومنه عرف أن عير قريش منه قريب.

إذ ذاك عاد إلى قومه، فبعث عليَّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يتلمسون له الخبر عليه. وعادت هذه الطليعة ومعها غلامان عرف محمد منهما أن قريشًا وراء الكثيب بالعدوة القصوى. ولما أن أجابا أنهما لا يعرفان عدَّة قريش، سألهما محمد كم ينحرون كل يوم؟ فأجابا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا. فاستنبط النبي من ذلك أنهم بين التسعمائة والألف. وعرف من الغلامين كذلك أن أشراف قريش جميعًا خرجوا لمنعه؛ فقال لقومه: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها." إذن فلا بد له ولهم أمام قوم يزيدون عليهم في العدد ثلاثة أضعاف أن يشحذوا عزائمهم، وأن يوطِّنوا على الشدة أفئدتهم ونفوسهم، وأن ينتظروا موقعة حامية الوطيس لا يكون النصر فيها إلا لمن ملأ الإيمان بالنصر قلبه.

وكما عاد عليٌّ ومن معه بالغلامين وبخبر قريش معهما ذهب اثنان من المسلمين حتى نزلا بدرًا، فأناخا إلى تل قريب من الماء وأخذا وعاءً لهما يستقيان فيه. وإنهما لعلى الماء إذ سمعا جارية تطالب صاحبتها بدين عليها والثانية تجيبها: إنما تأتي العير غدًا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيه لك. وعاد الرجلان فأخبرا محمدًا بما سمعا. فأما أبو سفيان فسبق العير يتنطس الأخبار حذر أن يكون محمد قد سبقه إلى الطريق. فلما ورد الماء وجد عليه مجدي بن عمرو، فسأله: هل قد رأى أحدًا؟ وأجاب مجديٌّ بأنه لم ير إلا راكبين أناخا إلى هذا التل، وأشار إلى حيث أناخ الرجلان من المسلمين. فأتى أبو سفيان مناخهما فوجد في روث بعيريهما نوى عرفه من علائف يثرب، فأسرع عائدًا إلى أصحابه وعدل بالسير عن الطريق مساحلًا البحر مسرعًا في مسيره، حتى بعد ما بينه وبين محمد، ونجا.

وأصبح الغد والمسلمون في انتظار مروره بهم، فإذا الأخبار تصلهم أنه فاتهم وأن مقاتلة قريش هم الذين ما يزالون على مقربة منهم؛ فيذوي في نفوس جماعة منهم ما كان يملؤها من أمل الغنيمة، ويجادل بعضهم النبي كي يعودوا إلى المدينة ولا يلقوا القوم الذين جاءوا من مكة لقتالهم. وفي ذلك نزل قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ.

وقريش هم أيضًا، ما حاجتهم إلى القتال وقد نجت تجارتهم؟ أليس خيرًا لهم أن يعودوا من حيث أتوا، وأن يتركوا المسلمين يرجعون من رحلتهم بخفيْ حنين؟ كذلك فكر أبو سفيان وبذلك أرسل إلى قريش يقول لهم: إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجَّاها الله فارجعوا، ورأى من قريش رأيه عددٌ غير قليل. لكن أبا جهل ما لبث حين سمع هذا الكلام أن صاح: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا ننحر الجزر، ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها؛ ذلك أن بدرًا كانت موسمًا من مواسم العرب؛ فانصراف قريش عنها بعد أن نجت تجارتهم قد تفسره العرب، فيما رأى أبو جهل، بخوفهم من محمد وأصحابه، مما يزيد محمدًا شوكةً ويزيد دعوته انتشارًا وقوة، وخاصةً بعد الذي كان من سرية عبد الله بن جحش وقتل ابن الحضرمي وأخذ الأسرى والغنائم من قريش.

وتردد القوم بين اتباع أبي جهل مخافة أن يتهموا بالجبن، وبين الرجوع بعد أن نجت عيرهم، فلم يرجع إلا بنو زُهرة الذين اتبعوا مشورة الأخنس بن شريق، وكان فيهم مطاعًا. واتبعت سائرُ قريش أبا جهل حتى ينزلوا منزلًا يتهيئون فيه للحرب ثم يتشاورون بعد ذلك. ونزلوا بالعدوة القصوى خلف كثيب من الرمل يحتمون به. أما المسلمون الذين فاتتهم الغنيمة فقد أجمعوا أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم؛ لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسَّر لهم مطر أرسلته السماء مسيرتهم إليها. فلما جاءوا أدنى ماء نزل محمد به.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة