نواصل رصد أحداث غزوة بدر الكبرى التى تمر ذكراها اليوم، وهى المعركة الكبرى التى أكدت قوة النبى وأصحابه، وغيرت التاريخ للأبد، ففيها انتصر المسلمون على أهل قريش، وتغير الوضع تماما، فما الذى حدث..
يقول الكاتب الكبير محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد":
كان الحُباب بن المنذر بن الجموح عليمًا بالمكان؛ فلما رأى حيث نزل النبيُّ قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلًا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال محمد: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فتنزل ثم نغوِّر ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضًا فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. ولم يلبث محمد حين رأى صواب ما أشار به الحباب أن قام ومن معه واتَّبع رأي صاحبه، معلنًا إلى قومه أنه بشر مثلهم وأن الرأي شورى بينهم وأنه لا يقطع برأي دونهم، وأنه في حاجة إلى حسن مشورة صاحب المشورة الحسنة منهم.
ولما بنوا الحوض أشار سعد بن معاذ قائلًا: "نبي الله، نبني لك عريشًا تكون فيه وتعدُّ عندك ركائبك ثم نلقى عدونا؛ فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدوِّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا؛ فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك."
وأثنى محمد على سعد ودعا له بخير، وبُني العريش للنبي، حتى إذا لم يكن النصر في جانبه وجانب أصحابه لم يقع في يد عدوِّه واستطاع اللحاق بأصحابه في يثرب.
هنا موضع لوقفة إعجاب بصدق وفاء المسلمين وعظيم محبتهم لمحمد وإيمانهم برسالته. فها هم أولاء يعلمون أن قريشًا تفوقهم في العدد وأنها ثلاثة أمثالهم، ومع ذلك اعتزموا الوقوف في وجهها وقتالها. وها هم أولاء يرون الغنيمة فاتتهم فلم يصبح الكسب المادي هو الذي يحفزهم للقتال، ومع ذلك قاموا إلى جانب النبي يؤيدونه ويعززونه. وها هم أولاء تتردد نفوسهم بين الطمع في النصر وخوف الهزيمة. ومع ذلك فكروا في حماية النبيِّ وتوقيته أن يظفر به عدوُّه، ومهدوا له سبيل الاتصال بمن ترك بالمدينة. فأي موقف أدعى للإعجاب من هذا الموقف؟ وأيُّ إيمان يكفل النصر كهذا الإيمان؟!
ونزلت قريش منازل القتال، ثم بعثوا من يقص لهم خبر المسلمين فجاءهم بأنهم ثلاثمائة أو يزيدون قليلًا أو ينقصون، ولا كمين لهم ولا مورد؛ ولكنهم قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، فلا يموت منهم رجل قبل أن يقتل رجلًا مثله. ولما كانت صفوة قريش قد خرجوا في هذا الجيش، خشي بعض ذوي الحكمة منهم أن يقتل المسلمون كثرتهم فلا تبقى لمكة مكانة. لكنهم خافوا حدة أبي جهل ورميه إياهم بالجبن والخوف، وإن لم يمنع ذلك عتبة بن ربيعة من أن يقف بينهم قائلًا: "يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب؛ فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرض منه لما تكرهون." فلما بلغت أبا جهل مقالة عتبة استشاط غيظًا وبعث إلى عامر بن الحضرمي يقول له: "هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد مقتل أخيك." وقام عامر فصرخ: وا عمراه! فلم يبق بعد ذلك من الحرب مفرٌّ. وأعجل القتال أن اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزومي من بين صفوف قريش إلى صفوف المسلمين يريد أن يهدم الحوض الذي بنوا؛ فعاجله حمزة بن عبد المطلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى ظهره تشخب رجله دمًا، ثم أتبعها حمزة بضربة أخرى قضت عليه دون الحوض. ولا شيء أرهف لظُبَا السيوف من منظر الدم؛ ولا شيء أشد إثارة لعواطف القتال والحرب في الإنسان من مرأى رجل مات بيد العدوِّ وقومه وقوف ينظرون.
وما إن سقط الأسود حتى خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة. وخرج إليه فتية من أبناء المدينة. فلما عرفهم قال لهم: ما لنا بكم من حاجة إنما نريد قومنا. ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. وخرج إليهم حمزة بن عبد المطلب وعليُّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث. ولم يمهل حمزة شيبة ولا أمهل عليٌّ الوليد أن قتلاهما، ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عتبة. فلما رأت قريش من ذلك ما رأت، تزاحف الناس، والتقى الجمعان صبيحة الجمعة لسبع عشر خلت من شهر رمضان.