زيادة مبيعات الشركات فى مصر وفلسطين وبيروت وأمريكا الشمالية بسبب أغانى “كوكب الشرق»
مع بداية العشرينات كانت «أم كلثوم» تتلمس الطريق وتمشى واثقة الخطى نحو عرش ملكة الغناء فى مصر والشرق فقد أحدث ظهورها زلزالا فى الذوق الفنى وسوق الغناء بعد اقتحامها مسارح القاهرة وحفلات علية القوم من الباشوات والبهوات.
الصوت الجديد أحدث انقلابا فى خريطة الغناء وهز عرش «شيوخ الطرب» الذين تسيدوا الساحة مع بداية آفول نجم الشيخ سيد درويش مثل الشيخ يوسف المنيلاوى والشيخ صالح عبدالحى والشيخ محمود صبح ودرويش الحريرى وكامل الخلعى، الذوق الفنى تغير كثيرا عقب ثورة 1919 مع نشوء جيل جديد يطالب بالتغيير فى كل شىء فى السياسة والوطنية والثقافة والفن.
شىء ما كان يجرى حولها تستشعره لكن لا تعرف ما هو بالتحديد. صراع وتنافس غاية فى الشراسة بين شركات الأسطوانات العالمية ما بين لندن وباريس وبيروت والقاهرة على الصوت الجديد الشابة التى بدأت توهجها وبريقها يسطع عقب ثورة 19 الكوكب الغنائى الجديد الآنسة أم كلثوم..!
جاءت أم كلثوم مع والدها الشيخ إبراهيم البلتاجى وشقيقها خالد وباقى أفراد أسرتها القاهرة فى عام 1923 وهى شابة يافعة فى العشرينات من عمرها – وان كان هناك اختلاف حول العام الذى ولدت فيه الست فهل هو 1898 أم 1902 وان كان الأخير هو الأقرب للدقة - فى بداية جديدة وفصل فنى مختلف تماما، فقد انتهت مرحلة التجوال فى القرى والموالد وبيوت العمد وجاءت الى المجد الذى تنتظره والذى يواكب تغييرات ما بعد ثورة 19 وهو ما حدث بالفعل مع قدومها بعد تأسيس الفرق المسرحية والفنية المصرية وتأسيس بنك مصر وجامعة القاهرة.
مع بدايات القرن العشرين بدأ الانتشار الناجح لشركات الأسطوانات العالمية مثل شركة جرامفون عام 1904 وكانت معظم مناطق العالم قد عرفت هذه الظاهرة وراحت المصالح التجارية فى العالم أجمع تسعى للحصول على نصيب من هذه الكعكة الجديدة.
دخلت شركات الاسطوانات مصر فى آواخر القرن التاسع عشر، بعد أقل من مرور عقدين على اختراع توماس إديسون للجرامافون فى 1877.كانت الأجهزة فى مصر قليلة جدًا وغير موجودة إلا فى بيوت الأثرياء. ومع حلول عام 1903 حدث تطور لصناعة الأسطوانة من الكبايات إلى القمع ثم إلى الأسطوانة المستديرة التى كانت تصنع من القار، تزامن هذا التطور مع غزو شركات الأسطوانات لمصر، مثل جرامفون زينوفون وشركة «بيضا فون» اللبنانية التى اشتراها فيما بعد الموسيقار محمد عبد الوهاب من صديقه إيليا بيضا وحولها إلى شركة كايروفون ذائعة الصيت والانتشار والتى أنتجت أكثر أغانى فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وشركة «بوليفون» التى تعتبر شركة منشقة عن شركة جرامفون الأم وشركة «كولومبيا» وشركة «أوديون» وميشان.
فى تلك الفترة كانت شركة لندن للجرامفون (تى إم أى فيما بعد) واحدة من أوائل وأنجح الشركات، قامت بتأسيس أعمالها الدولية من خلال الوسيلة البسيطة الملائمة لإيجاد أشخاص جيدين يعول عليهم فى إدارة الفروع فى مناطق ما وراء البحار وإعطائهم حق التوزيع الحصرى.
وكانت نوعية الناس الذين تبحث عنهم هم من أمثال كارل فريدريك فوجل الألمانى المولد وصاحب أحد محلات المعدات فى الإسكندرية. وأصبح فوجل منذ عام 1905 مديرا لمكتب شركة جرامفون فى القاهرة ويمثل بضائعها فى مصر وسوريا، وفى عام 1913 عرضت الشركة عمل ترتيب مع فوجل لزيادة علاقتها المستمرة معه، وبالمقابل فقد عرض توسعة المنطقة طالبا أن تشمل الحبشة واليونان والامبراطورية العثمانية وفلسطين والسودان.
لكن مع بداية عمل فوجل ووضعه خطة العمل فى السوق المصرى اندلعت الحرب العالمية الأولى أو الحرب العظمى (1914-1918)- كما أسماها التقرير الذى كشفت عنه جرامفون فيما بعد-والتى أشاعت الفوضى فى المنطقة وحدت بشكل كبير من نشاطات فوجل وأحبطت خططه لتوسيع شركة جرامفون فى الإسكندرية.
ومع ذلك وفى عام 1919 وخلال تقييمه للوضع فى مذكرة داخلية، كتب آرثر كلارك أحد مدراء شركة جرامفون يقول إنه على الرغم من سلبية السنوات الخمس السابقة الا أن السيد فوجل تمكن من تجاوز الأزمة المالية، لقد اقترح السيد كلارك قيام الشركة بدعم مساعديه فى جميع الأمور العملية لتمكينه من تحقيق أهدافه المبدئية.
وفى عام 1923 وكجزء من تقرير عام كتب فوجل الى الشركة الأم فى لندن يكشف فيه انه: «حدث تغيير هائل فى تذوق الموسيقى هنا- يقصد فى مصر والشرق- فباستثناء كبار السن من المستمعين الذين ما يزالون يستمتعون بالأغانى الكلاسيكية للشيخ يوسف المنيلاوى وصالح عبدالحى وعبدالحى محمد، فإن الجيل الجديد يطلب بشكل حصرى الأغانى الحديثة.
وفى عام 1926 أنجز فوجل أول تسجيلات لأم كلثوم ونوه فى خطابه إلى لندن فى سبتمبر 1928 قائلا: «ينبغى على الحصول على فرصة لضمان احتكار صوت أم كلثوم لسنتين أو ثلاث» فشهرة هذه المغنية تتنامى يوميا، وقد بلغت حتى القسطنطينية والعراق، والأسطوانات التى سجلناها فى مايو الماضى ذات أداء رائع للصوت الجميل لهذه الفنانة».
وقال فوجل إن محلاتى فى القاهرة والإسكندرية تتلقى استفسارات يومية عن اسطواناتها وأن الموزعين فى فلسطين وسوريا يتطلعون بشوق لعرضها بالسرعة الممكنة.
ويكشف لقد بلغنى أن شركات أوديون وباتى وكولومبيا «هذه الأسماء الثلاثة اندمجت فى شركة جرامفون لتشكل ئى ام أى» تحاول تأمين احتكار هذه الفنانة لأسطواناتهم وأن أوديون مستعدة لدفع مبلغ يصل إلى 100 جنيه للأسطوانة..!
ويؤكد فوجل فى تقريره: «سوف أحاول إبرام عقد إتاوة، ولكن إذا لم أتمكن من ذلك يجب جعلى فى وضع يمكننى من القيام بذلك بدون إبطاء، إن هذا الموضوع أمر مهم جدا لأعمالنا المستقبلية بكاملها».
فى هذه الفترة... تم اجتذاب أم كلثوم من قبل شركة أوديون لجلسة واحدة فى وقت لاحق من السنة نفسها، ليس ثمة مصادر فى الأرشيف تفيدنا عن المبلغ الذى حصلت عليه مقابل ذلك. لكنها عادت فى السنة التالية إلى فوجل وإلى شركة جرامفون، نتيجة ذلك.. أصبح بمقدور فوجل أن يقول فى تقريره: «إن أسطوانات أم كلثوم كما تعلمون قد أنعشت تجارتنا فى الأسطوانات العربية واننى أتوقع أن تساعد التسجيلات التالية كثيرا فى زيادة هذه الحركة الإجمالية».
فى مايو 1927 نجحت شركة جرامفون فى الإسكندرية بتوقيع عقد جديد وحصرى مع أم كلثوم يضمن لها 1600 جنيه فى السنة، وكان يجرى عرض أسطواناتها للبيع فى أمريكا الشمالية من قبل شركة فيكتور التى كانت شركة جرامفون تؤجرها الأسطوانات على أسس منتظمة.. مع تزايد شهرتها بسرعة، أخذ فوجل يستثمر فى عمل ملاحق كتالوجات خاصة مكرسة بشكل حصرى لتسجيلات أم كلثوم، كانت هذه النشرات الصغيرة الأنيقة تحتوى ليس فقط على قوائم كاملة بالأسطوانات ولكن إلى جانبها بعض القصائد الغنائية، صورة وكلمات قليلة كتبتها أم كلثوم نفسها.
لقد كان تأثير موسيقى أم كلثوم على تجارة الأسطوانات فى مصر هائلا، فقد حققت مبيعات الأسطوانات ارتفاعا لم يكن أحد يتصوره من قبل فى السنة السابقة على أول تسجيلات لأم كلثوم، وبلغت أرقام المبيعات لأحد العملاء الرئيسيين لفوجل وهو محل أسطوانات بفلسطين يدعى اس.ايه. بوتاجى وأولاده 1720 جنيها وفى السنة التالية قفزت المبيعات الى 5133 جنيها.
وفى رسالة له إلى لندن فى يونيو 1927 نوه فوجل: «لقد تحققت هذه النتيجة من خلال السماح بالائتمان للموزع والتسديد بنظام الأقساط وكذلك لصدور أسطوانات أم كلثوم.
فى العاشر من فبراير 1929 توفى كارل فوجل فجأة إثر نوبة قلبية، تم تبادل سلسلة من برقيات التعزية بين الإسكندرية ولندن معبرة عن الحزن والصدمة لهذه الحادثة غير المتوقعة.
وكتب أبناء فوجل كتابا مفصلا الى شركة جرامفون بعد أيام من وفاة والدهم يطلبون السماح لهم بمواصلة إدارة العمل مع التأكيد للمكتب الرئيسى على نواياهم الجادة.
وافقت لندن على مواصلة الترتيب، وفى مايو من نفس السنة وصل ادوارد فاولر أحد أشهر خبراء التسجيلات المهرة فى الشركة لتولى القيام بسلسلة جديدة من التسجيلات. وظلت أسطوانات أم كلثوم فى الكتالوجات طوال حقبة الأسطوانات التى تدور بسرعة 78 دورة فى الدقيقة.
مع ظهور التسجيلات الكهربائية حدثت نقلة كبيرة فى عالم الأسطوانات ودخلت التقنية الجديدة إلى الشرق فى 1927، وتميزت تلك الأسطوانات بالنقاء، ولكنها كانت ذات عمر قصير وعندما تستهلك تصبح مزعجة جدًا ولا تصلح للسمع، وقد طورت شركة «ميشان» نفسها وأدخلت التسجيل بالكهرباء فى نفس العام تقريبا.
وكانت بداية النهاية للتنافس فى إنتاج واستهلاك الاسطوانات جاء مع انتشار الراديو فى بداية الثلاثينيات وأيضا مع دخول السنما الناطقة فى مصر وقد تزامن هذا أيضا مع الأزمة المالية العالمية التى بدأت فى 1929، فانخفضت مبيعات الأسطوانات بشكل واضح، لذلك يعتبر أن بداية الثلاثينيات هى إلى حد ما بداية النهاية للعصر الذهبى للأسطوانة العربية. وواصلت الاسطوانات رحلة الاختفاء مع التطور التكنولوجى وظهور شرائط الكاسيت وقبلها بكر التسجيل على البيك أب.
لكن فى منتصف التسعينيات وتحديدا عام 1996 وفى ذكرى وفاة أم كلثوم أنتجت الشركة نسخة رقمية من الأغانى الأصلية من أرشيف جراموفون التى أصبح اسمها الآن «تى.ام.أى» وتتضمن الأغانى الأولى لكوكب الشرق مثل: «تشوف أمورى، الصب تفضحه عيونه، صدق وحبك، خيالك فى المنام، يا آسى الحى، إن كنت أسامح» – أحتفظ بنسخة من هذه الأسطوانات المدمجة--...!!.
