يواصل الكاتب والباحث محمد سيد ريان العمل فى منطقته الأثيرة كتابة وبحثًا، تلك المنطقة المتعلقة بتاريخ مصر الاجتماعى والثقافى والفنى، وها هو يقدم لنا كتابا جديدا بعنوان "الفن فى المعركة" والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وذلك تزامنًا مع معرض القاهرة الدولى للكتاب، وهو يتضمن كشفا ثقافيا وفنيا نادرا من كتابات وشهادات وصور ووثائق مجهولة، منها ما يتعلق بالفنانة الكبيرة الراحلة نادية لطفى، التى تمر اليوم ذكرى رحيلها، إذ توفيت فى 4 فبراير من سنة 2020.
بداية القصة.. فى عددها الصادر فى 8 يوليو 1969 فوجئ المتابعون لمجلة الكواكب المتخصصة فى أخبار الفن والفنانين بوجود صفحات من العدد وباب جديد تحت عنوان "الفن فى المعركة"، وتحته مكتوب "مجلة خاصة تقدمها نادية لطفى"، ربما قد يكون مستغربا وقتها أن تقدم فنانة فى عز مجدها ونجوميتها مواد صحفية، وتكتب مقالات وتجرى حوارات، لكن بعدها أدرك الجميع أنها ليست فنانة عادية.. إنها نادية لطفى.
الحكاية أن هذا الباب أو المجلة -وهو الاسم الأدق كما أطلقته الكواكب باعتبارها مجلة داخل مجلة- استحدثت بعد الزيارات المتكررة للفنانين على الجبهة، التى أشرنا إليها سابقاً، كنتيجة مباشرة لأصداء ونتائج تلك اللقاءات النادرة، وكتوثيق لجولات من أروع ما قام به الفنانون والمثقفون والأدباء والمفكرون على مر العصور.
يعتبر عدد 8 يوليو 1969 هو الأول لهذه المجلة الواعدة، ولأن المؤسس غالبا ما يكون له الصوت الأول، فقد تصدر العدد مقال افتتاحى للدكتورة حكمت أبو زيد بعنوان "إلى الأبطال" جاء فيه: "مع إشراقة اليوم الجديد، ومع غروبه، نتوجه إليكم بالصلوات والدعوات، لقد عشنا معكم أسعد لحظات حياتنا وأحلى ساعات عمرنا، رأينا حبات عرقكم وأسعدتنا بسماتكم المشرقة بالأمل، وإيمانكم العميق وأحسسنا مدى الجهد الذى تبذلونه من أجلنا، ومن أجل أولادنا ومن أجل الأجيال الماضية والمستقبلية".
من الفنانة إلى الكاتبة!.. خبر صغير نشر بمجلة آخر ساعة منتصف عام 1969 بعنوان "نادية لطفى صحفية" جاء فيه: "عملت الفنانة نادية لطفى فى الأسبوع الماضى صحفية، أخذت تتصل بزملائها الفنانين والفنانات فى التليفون وتسألهم عن آخر الأخبار، ثم قامت بتحرير صفحتين كاملتين فى إحدى المجلات تحت اسم "الفن فى المعركة"، ورفضت نادية مساعدة بعض الصحفيين، وقالت: "إنها تفضل الاعتماد على نفسها فى تحرير الصفحتين".
كان الخبر مثيرا للجمهور وقتها، وقد نشرته آخر ساعة بتحفظ دون أن توضح اسم المجلة الأخرى -الكواكب- بتاريخ 9 يوليو 1969، والحقيقة أن خبر ومعلومة آخر ساعة كان لديهم السبق، وخلال الأسابيع التالية تأكد الجميع أنهم أمام صحفية كبيرة جدا.
حاولت البحث كثيرا عن بدايات الولع بالفن الصحفى لدى الفنانة نادية لطفى، والحقيقة أننى وجدت عزائى فى مذكراتها التى نشرتها تحت عنوان "اسمى بولا" فقد ذكرت بالنص: "بعد فشلى فى تجربة التمثيل فى مسرح المدرسة، سيطرت على فكرة ساذجة بأننى أمتلك موهبة خطيرة فى الكتابة الأدبية والتأليف، وأصبحت مغرمة بكتابة القصص وإرسالها إلى الصحف والمجلات والمشاركة فى مسابقات الهواة، وذات يوم وصلنى خطاب من مجلة معروفة يفيد بفوزى بالجائزة الأولى، وكانت قيمتها المالية عشرين جنيها، وأصرت صديقة لى على أن تقيم لى حفلا فى بيتها بحضور صديقاتنا المقربات، على أن أتحمل أنا تكاليفها باعتبارى أصبحت ثرية، وفى اليوم التالى ذهبت إلى مقر المجلة لتسلم الجائزة، وإذا بمدير التحرير يلقى إلى بالمفاجأة الصادمة: لم نرسل لك أى خطاب ونتيجة المسابقة لم تعلن بعد! وأدركت على الفور أننى تعرضت لمقلب من تلك الصديقة الشريرة".
يبدو من الموقف السابق مدى تعلق نادية لطفى بالكتابة والصحافة فى سنواتها الأولى، وربما كان نجاحها فى التمثيل بعد ذلك كفيلا بإبعادها عن تلك الهواية المتأصلة، لكن ها هى الظروف تسمح لها مرة أخرى بتجربة صحفية مبدعة فى سطور هذه المجلة.
وصفها الشاعر صالح جودت فى إحدى زياراته للجبهة مع الفنانين والأدباء: "نادية لطفى.. هذه الفنانة التى تعيش أكثر من أى فنانة أخرى مع المعركة.. فهى تذهب مع كل فوج، وتلبى كل نداء، وتترك ابتسامتها الجميلة مطبوعة على الرمال أمام أخوتها الجنود الرابضين فى الجبهة".
وخلال أعداد المجلة المتوالية، اختارت نادية لطفى لها مقالاً منزوياً فى نهاية الصفحة الأخيرة بعنوان "همسة".
وفى مقالها بعدد 15 يوليو 1969، كتبت بأسلوب أدبى ساحر "تسألونى .. ماذا رأيت هناك؟؟ فأجيب بكلمات هى فى حقيقة أمرها أقصر قامة من هامات الرجال على طول خط المواجهة، فهل تحوى قواميس العالم كلمات عملاقة تصف صمودهم طوال الليل والنهار؟ لا أظن.. تسألونى.. ماذا رأيت هناك؟؟ فأقول لقد رأيت الصخر منحوتا على صورة جنود وأبطال، نعم أقول الصخر، فعینای کادتا لا تمیزان ما بين الشخوص التى ينحتها أهل الفن كرموز للقوة وما بين رجالنا المنتصبين بلا كلل وبلا ملل.
ماذا رأيت هنا؟؟.. سؤال يتردد على مسمعى أثناء غدوى ورواحى فى أى مكان فأرد: «رأیت الصدق والإرادة والقدرة.. رأيت العزم والجلد.. رأيت الصهد يخرج من صدور رجال لینفثوه من حولهم أعمالا وأعمالا..رأیت.. رأیت، ولكن أما قلت لكم إن كلماتى المتواضعة تعجز عن وصف ما رأيت؟".
خطاب من جندى معجب.. تعود نجوم الفن فى تلك الفترة، وتأتيهم خطابات المئات من المعجبين الذين يتابعون أخبارهم وصولاتهم وجولاتهم هنا وهناك، ولكن الأمر مختلف هذه المرة، فالمعجب ليس من الجالسين ليل نهار أمام شاشة التليفزيون أو يقيم داخل صالات العرض السينمائى أو يمتلك رفاهية الوقت، ليكتب خطابا كله غرام وأشواق.
المعجب مجند على الجبهة اسمه خيرى بدوى أحمد، فقد جاء للمجلة خطاب من جندى موجه للفنانة نادية لطفى، ونشر بتاريخ 3 سبتمبر 1969، كما أشار الكتاب، وهو وثيقة من أهم وثائق تلك التجربة الوطنية المهمة، وفيما يلى نصه:
"عزيزتى الأخت الكريمة الفنانة نادية لطفى.. أبعث إليك هذا الخطاب من جندى يؤدى واجبه المقدس فى جبهة القتال، كم كنت مسرورا عندما رأيتك لأول مرة فى حياتى، عندما قمت بزيارتنا فى الجبهة، وقد كنا فى تلك الأيام فى مدينة بورسعيد لقضاء فترة تدريبية، ورأيتك أنت الفنانة الكبيرة، وكم سررت لتلك الزيارة، وأحسست بشعور نحوك أنت الأخت العزيزة التى جاءت لتطمئن علينا نحن الجنود، وتحملين معك بعض الهدايا، وكان يلازمك فى تلك الزيارة بعض الزملاء، وأتذكر منهم الأستاذ إحسان عبد القدوس والأستاذ صالح جودت والأستاذ صلاح ذو الفقار والدكتورة حكمت أبو زيد والزميلة عواطف البدرى والأستاذ عبد اللطيف التلبانى.. إننى أتذكر ذلك اليوم جيدا، ولمست على وجهك الجميل شعور الحماس وروح الكفاح العالية، كل هذا كان شيئا طبيعيا ترك بعض الأثر فى نفسى، وأحسست أن الدنيا ما زالت بخير، وما زالت القلوب الكبيرة موجودة بعد أن فقدت الأمل، وفيكم أنتم يا أهل الفن بالذات، ولكن بعد ذلك تتبعت أخبارك فإذا بك فى مدينة السويس، وإذا بك مرة أخرى فى مدينة الإسماعيلية، وإذا بك تدعين لعقد مؤتمرات فنية وندوات واجتماعات لأسر المجندين بخط النار، وإذا بك هنا وهناك لا تهدئين ولا تستريحين، أنت الفنانة التى لم أنتظر منها يوما أن تفعل كل ذلك، وبصراحة أذهلتنى كل هذه الأشياء، ولكن هذه هى الحقيقة، وهنا هو ما تفعلينه بالفعل، وغير ذلك ترفضين أى تعليق للصحفيين عن زيارتك للجبهة.
كم أود أن تعلنى مكانتك الآن فى قلبى، صحيح أنه قلب شاب فى مستوى الدرجة الثالثة، لكنه لا يختلف عن قلب إنسان آخر ولو كان من الفئة الممتازة، لأنك كما تعلمين الإنسان يستطيع أن يضع فى قلبه ما يشعر به دون قيد أو شرط.
كل هذا كان بالشىء البسيط أمام ما سأرويه لك الآن.. وأنا أقرأ مجلة الكواكب كالمعتاد، فجأة وقعت عينى على كلمة بعنوان همسة الذى تشرفين عليه، وكانت الهمسة منك أنت، فقرأتها مرات ومرات، وعرفت من تلك الهمسة أن وحيدك أحمد يرقد فى أحد المستشفيات وفى غرفة رقم 7، وتتمنين أن تكون إصابة أحمد هذه فى إحدى المعارك، وتتمنين أن يكبر أحمد وحيدك ليؤدى واجبه المقدس، وتتمنين أن يكبر وحيدك، وتكون رقدته هذه فى أحد مستشفيات القوات المسلحة.
كم أنا فى ذهول، وكم أنا فى حيرة، وكم أنا فى عجب. إننى فى ذهول لأم تتمنى لابنها الوحيد شرف الاستشهاد فى الميدان المقدس، وكم أنا فى حيرة لأم مثلك تستطيع أن تعطى لوحيدها كل شىء وتلبى كل رغباته، ورغم ذلك لا تبخل به فى سبيل هذا الوطن العزيز.
وكم أنا فى عجب من أمر أمى التى تودعنى بدموع وابتهالات إلى الله، رغم أننى أخ لخمسة وكلهم الأكبر سنا.
وأنت ليس معك سواه وتتمنين أن يكبر ويصاب ولا دمع ولا بكاء.. بل إصرار وعناد.
إننى أشعر بأنى أكثرت فى الكلام ولكنى أعرفك بأنك الآن ذات مكانة كبيرة فى قلبى وليس أنا فقط، بل كل أخوانى وزملائى الذين يعلمون عنك كل شىء وكنت أتمنى أن تذكرى اسم المستشفى، الذى يرقد به أحمد وحيدك العزيز، لأقسمت لك بأننى كنت قد زرته فعلا، وهذا شرف لى، ولكنك لم تفعلى ذلك، وكل ما أرجوه وأتمناه من الله سبحانه وتعالى الآن أن يشفى وحيدك، ويخرج قريبا جدا بإذن الله.. إننا جميعا لنتمنى له الشفاء العاجل.
أقول لك وأكرر قولى بأننا فداء لك ولوحيدك ولهذا الوطن العزيز، ولن تغفل لنا عين أو يهدأ لنا بال قبل تحرير أرضنا العربية قريبا جدا إن شاء الله.
وفى ختام خطابى، تقبلى كل تحياتى وأشواقى راجياً من الله سبحانه وتعالى أن يديم عليك وافر الصحة وخالص الهناء، ورجائى إرسال خطاب منك وبه صورة صغيرة لنتذكرك دائما أيتها الأخت العزيزة.
ومن المثير أن تنتهى هذه التجربة نهاية درامية تليق بمؤسستها المناضلة، فتم إصدار بيان من الأدباء والفنانين ضد إسرائيل والصهيونية يُعد وثيقة من أهم وثائق الشرف للمثقفين المصريين.
تثبت هذه المجلة أو التجربة الرائدة أهمية دور القلم والريشة والأغنية والمشهد السينمائى إلى جانب البندقية والسلاح الثقيل، وهى تؤكد رسالة مهمة للمواطنين بأن المعركة هى معركتنا جميعا، وليست لمن هم على الجبهة فقط.




