هنا.. في أروقة متحف الشرطة، حيث تتناثر أصداء التاريخ بين الجدران، تظل العصا التي كانت آخر ما تبقى من أدهم الشرقاوي شاهدة على أسطورة رجل تتأرجح صورته بين المجرم والبطل الشعبي، كانت يداه تسرق من الأغنياء، ولكنها كانت أيضًا تمارس العطاء، تنقل الأموال من خزائن المقتدرين إلى جيوب البسطاء. هكذا، تداهمه القلوب محبة أو كراهية، لكن الجميع اتفق على أنه كان شخصية غامضة، شجاعة إلى حد التهور، وطموحًا للثأر حتى الرمق الأخير.
"اليوم السابع"، رصد حكايات أدهم الشرقاوي، الذي ارتكب العديد من الجرائم في صباه، خاصة سرقة الأموال والتهديد والقتل، بات فيما بعد رمزًا للتحدي، ففي عيون الفقراء، كان بطلًا يقاتل من أجلهم ضد الظلم والفساد، بينما كان له في قلوب الأثرياء طيف المجرم الذي لا يرحم، لكن الحكايات الشعبية حوله تزدهر كما الزهور في الذاكرة، ليتحول إلى أسطورة تمزج بين الفتوة والخوف، وبين الأمل في العدالة والطريق الوعر نحو الخلاص.
وفي متحف الشرطة، يظل وجود أدهم الشرقاوي حيًّا بين متعلقاته الشخصية، فتظل عصاه تروي الكثير عن شخصيته وتُسجل قصصه في صفحات لا تُمحى. هي ليست مجرد عصا، بل هي رمز للتحدي والانتقام، لتظل حكاياته تتردد في الأذهان، يتداولها الكبار والصغار، ليبقى اسمه محفورًا في ذاكرة التاريخ.
وُلد أدهم الشرقاوي في عام 1898 في قرية زبيدة التابعة لمركز إيتاي البارود في محافظة البحيرة، ونشأ في أسرة فلاحية متواضعة، ولكن كان له دور كبير في تقاليد القرية، إذ كانت أسرته تتولى منصب العمودية، ما يضفي عليه نوعًا من الهيبة والاحترام.
من طفولته المبكرة، أظهر أدهم قوى خارقة ومهارات عديدة، حيث كان يرفع رحى الطاحونة الثقيلة بمفرده، يجيد ركوب الخيل والسباحة، فضلاً عن تمكنه من اللغة الإنجليزية التي تعلمها في مدينة كفر الزيات.
بداية الصراع
تعددت الروايات حول السبب الرئيس وراء انطلاقته في مسار الجريمة، إحداها تقول إنه بدأ ثورته بعد مقتل عمه محمود بإيعاز من أحد الأعيان المحليين، إبراهيم حافظ، الذي كان يملك عزبة مجاورة لأرضهم. وعندما حاول أدهم الانتقام لمقتل عمه، كان ذلك هو النقطة التي دفعته إلى ارتكاب جريمة قتل أولى في حياته.
وفقًا لرواية أخرى، فقد تعرض أدهم لمؤامرة حين تم توريطه في جريمة بالخطأ، ليتعرض للسجن، إلا أن القصة الأكثر رواجا هي أن أدهم كان في طفولته شخصًا عدوانيًا، مما أدى إلى خروج والده له من المدرسة في سن مبكرة.
أسطورة الفتى الثائر
بدأت أسطورة أدهم الشرقاوي في الظهور بشكل جلي عندما بلغ التاسعة عشرة من عمره، فبعد حادثة قتل ارتكبها وكان عمه عبد المجيد الشرقاوي من بين الشهود ضده، تدخل أدهم في محكمة الجريمة وهاجم أحد الشهود بقصد الانتقام، ليتعرض للحكم بالسجن سبع سنوات في "ليمان طرة".
وهكذا، كانت بداية صراعه مع السلطة في السجون، لم يكن السجن قادرًا على ترويضه، بل كان المكان الذي انطلقت منه جريمة أخرى، حين التقى عبد الرءوف عيد، قاتل عمه محمود، في السجن، ضربه على رأسه بأداة حادة كانت تستخدم لقطع الحجارة.
بطولات خارقة
مع قيام ثورة 1919، استفاد أدهم من حالة الفوضى في البلاد، ليهرب من السجن مع عدد من السجناء، هنا، ظهرت صورته كبطل شعبي لا يقهر، حيث قاد تمردًا وسط السجناء في سجن "ليمان طرة"، وأطلق عبارته الشهيرة: "أنتم محبوسين زي الفراخ وإخوانكم بره بيضربوا بالرشاشات"، مشيرًا إلى الثورة ضد الاستعمار البريطاني، في ظل تلك الفوضى، استخدم قوته الجسدية لخلع بوابة الزنزانة وقيّد الحارس بالسلاسل، هاربًا مع رفاقه بعد معركة دامية مع قوات الشرطة سقط فيها العديد من القتلى.
بعد هروبه، أصبح أدهم الشرقاوي شخصية محورية في جرائم القتل والسرقة وسطو على الممتلكات، انضم إليه عدد من المتعاونين، وبدأ في ارتكاب العديد من الجرائم، بما في ذلك القتل والتهديد بالقتل مقابل المال، كان يسطو على التجار ويبتز العمد والأعيان الذين كانوا يخشون بطشه، الأمر الذي أثار الفزع بين المواطنين.
نهاية مأساوية
مات أدهم الشرقاوي في عام 1921، عن عمر يناهز الثالثة والعشرين، وهو ما يزال يلفّ الأساطير التي تحيط به، قُتل على يد ثلاثة من أفراد الشرطة بعد كمين نصب له في أحد حقول الذرة، ورغم بطولاته في نظر البعض، إلا أن الروايات تتباين حول سبب مقتله، إذ يشير البعض إلى أن مقتله كان نتيجة لتواطؤ من أحد أصدقائه، بدران، الذي تم استمالته من قبل السلطة.
أسطورة أدهم في الثقافة العامة
رغم انتهاء حياته المأساوية في سن مبكرة، ظل اسم أدهم الشرقاوي خالداً في ذاكرة الشعب المصري، تم تحويل سيرته إلى أعمال فنية جسدت بطولاته ورواياته المتضاربة، ففي عام 1964 تم إنتاج فيلم "أدهم الشرقاوي" بطولة عبد الله غيث، بينما تم تقديمه في مسلسلات تليفزيونية أبرزها مسلسل "أدهم" عام 1983 من بطولة عزت العلايلي، والمسلسل الذي حمل نفس الاسم في 2009 من بطولة محمد رجب، كما ألهمت قصته العديد من الشعراء والمطربين، إذ غنى له رشدي الموال الشعبي الشهير: "آه يا خوفي يا بدران ليكون ده آخر عشا".
وفي كتابه "البحث عن الذات"، أشار الرئيس الراحل أنور السادات إلى أدهم الشرقاوي كمثال على النضال والمقاومة، مؤكدًا أنه كان يعتبره بطلاً شعبيًا.
مما لا شك فيه أن حياة أدهم الشرقاوي تبقى لغزًا معقدًا، مليئًا بالتفاصيل المتناقضة، ما بين البطل المقاوم الذي وقف في وجه الاحتلال البريطاني، والمجرم الذي أطلق العنان للعنف والقتل، لكن الأهم من كل ذلك، أن قصة أدهم الشرقاوي قد شكلت جزءًا مهمًا من النسيج الشعبي المصري، حيث ارتبط اسمه بمقاومة الفساد والتسلط، معلقًا في الذاكرة الشعبية كأيقونة من أيقونات التاريخ المصري.