زيارة هامة يقوم بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى إسبانيا، بالنظر إلى العديد من المعطيات، أبرزها توقيت الزيارة، فى ضوء مرحلة تشهد ترتيبات مهمة، سواء فيما يتعلق بمستقبل منطقة الشرق الأوسط، أو حتى على النطاق الدولى، بصورته الجمعية، مع صعود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى إطار سياسات لا تروق فى جزء كبير منها لحلفائه الأوروبيين، من جانب، بالإضافة إلى الأهمية التى تحظى بها البلدان، فيما يتعلق بمناطقهما الجغرافية، أو فيما يرتبط بالقضايا الدولية البارزة، وعلى رأسها أزمة غزة، ومستقبلها، بالإضافة إلى القضية الفلسطينية برمتها، وهو الأمر الذى يضفى المزيد من الزخم للعلاقات بين القاهرة ومدريد، ويسلط الضوء على الزيارة الحالية.
فلو نظرنا إلى الشرق الأوسط، وقضاياه، فلا صوت يعلو فوق صوت مصر، فى اللحظة الراهنة، والتى أثبتت بجلاء واضح، قدرتها على رعاية القضية الفلسطينية، والتى تحظى بمركزيتها الإقليمية، وهو ما بدا منذ لحظة العدوان، عندما تصدت بالشراكة مع شركائها الإقليميين والدوليين لمخططات التهجير، التى دعت إليها إسرائيل، عبر نهج صلب، باستخدام القوة العسكرية، بينما اتجهت، بالتعاون مع الولايات المتحدة، نحو تطبيق الخطة نفسها فى إطار ناعم، بدعم أمريكى، تحت ذريعة إعادة إعمار القطاع المنهار، فى حين تبقى إسبانيا أحد القوى الفاعلة المهمة فى هذا الملف، فعلى أرضها استضافت مؤتمر مدريد للسلام، والذى فتح باب التفاوض لتحقيق عملية السلام، وإنهاء الصراع العربى الإسرائيلي.
وفى الواقع، يعد اختيار إسبانيا، لتكون محلا لزيارة الرئيس السيسى، فى التوقيت الراهن، انعكاسا للدبلوماسية المصرية، والقائمة فى الأساس على خلق التوافقات الدولية، حول ثوابت القضية الفلسطينية، فى إطار الشرعية الدولية، والتى تتمركز حول حل الدولتين، وفى القلب منه إقامة الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشرقية، وما يترتب على ذلك من نتائج تبدو ضرورية، وعلى رأسها رفض مخطط التهجير، الذى يهدف بالأساس إلى تصفية القضية.
ولعل الموقف الإسبانى تجاه مسألة التهجير، واضحا لا لبس فيه، حيث لم يقتصر على مجرد التصريحات، وإنما امتد إلى نطاق أكثر عملية، يتجسد فى قرار حكومة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، خلال الأشهر الماضية، وهو ما يمثل صفعة قوية للاحتلال الإسرائيلى، خاصة وأن مدريد تعد إحدى الدول المحسوبة على المعسكر الغربى المحسوب على الدولة العبرية، وهو ما أضفى الكثير من الزخم إلى الخطوة، والتى اتخذتها دولا أخرى، من بينها النرويج وسلوفينيا وغيرهم، مما أثار امتعاض تل أبيب.
وللمفارقة، فإن رئيس الوزراء الإسبانى استبق قرار بالإعلان عن نواياه بالاعتراف بالدولة الفلسطينية باتخاذ الخطوة التاريخية، من قلب مصر، وتحديدا على أرض سيناء، خلال مؤتمر صحفى مشترك مع نظيره البلجيكى ألكسندر دى كرو، خلال زيارتهما إلى معبر رفح البرى للاطلاع على سير المساعدات الإنسانية، وللتحقق من حجم التعنت الإسرائيلى فى توصيلها إلى سكان القطاع، فى إطار حالة من الحصار، الذى طال سكان غزة، تراوح بين الاعتداءات الوحشية، التى قتلت الآلاف مهم، وشردت الملايين، من جانب، والتجويع المتعمد، عبر حرمانهم من أهم أساسيات الحياة، خلال فترة العدوان، وهو ما يعكس إدراك الحكومة الإسبانية بأهمية الدور المصرى ومحوريته فى دعم القضية، ناهيك عن كونه انعكاسا لرغبة ملحة فى العمل معا لتحقيق السلام فى المنطقة.
ويعد العمل المشترك بين القاهرة ومدريد، فى إطار القضية الفلسطينية، بابا مهما لتوسيع دائرة التعاون، فى إطار شراكات، أجادت مصر صناعتها فى السنوات الأخيرة، سواء على مستوى مناطقها الجغرافية أو على نطاق دولى أوسع، ليتجاوز القضية الإقليمية، نحو التعاون الثنائى، فى العديد من المجالات الأخرى، على غرار شراكات أخرى بين مصر ودول أوروبا، منها الشراكة الثلاثية مع اليونان وقبرص، وكذلك العلاقة الوطيدة مع فرنسا، ناهيك عن التعاون الجاد مع دول فيشجراد، وهو ما يعكس طبيعة التحركات المصرية، والتى باتت تنأى بنفسها على التحالفات التقليدية، نحو نهج يعتمد الشراكات الاستراتيجية، التى من شأنها تنحية الخلافات، نحو تعزيز العلاقات، لتحقيق المصالح المشتركة.