** عشت مع 30 شخصا في غرفة واحدة
** ابنتي ذات السبعة أعوام كانت تتلو الأدعية وهي تهرب من القصف
** ما عشناه في بداية العدوان لم يكن في الخيال والموت كان يحيط بنا من كل مكان
** بدأنا مبادرات تعليمية بين الخيام والاحتلال لا يقتل الأجساد فقط بل الوعي أيضا
بين الركام وتحت سماء لا تعرف الهدوء، وسط 733 يوما من القصف المتواصل والنزوح والمجازر، برز صمود الشاعرة الفلسطينية سمية وادي كأحد الوجوه المضيئة التي حافظت على جذوة الحياة في غزة.
لم تكن سمية مجرد شاهدة على الحرب، كانت قلبا ينبض رغم الجوع، وأما تقاوم رغم الخوف، وكاتبة تحاول أن تسرق ما تبقى من نور لتوثق ما عاشه الفلسطينيون في واحدة من أقسى مراحل التاريخ الحديث.

الشاعرة الفلسطينية سمية وادي
وخلال هذا الزمن الطويل، كتبت سمية قصيدتها الأهم "قصيدة الصمود"، كانت تدرك أن بقاءها وبقاء أطفالها ليس أمرا مفهوما ضمنيا، بل معجزة تتكرر كل يوم.
لم يكن الأمر ممكنا لولا الله
تستعيد الشاعرة الفلسطينية بداية الحرب بشعور لا يزال يثقل الذاكرة، حيث تتحدث لـ"اليوم السابع"، قائلة :"لم يكن أي عقل يمكنه احتمال ما حدث، الموت كان يحاصرهم من الجهات الأربع، والنزوح يعلن نفسه على أبواب البيوت بلا مقدّمات، والخوف يتمدد في صدور الأطفال والنساء كما لو أنه جزء من الهواء.
تقول سمية: "لم يكن الأمر ممكنا ولا في الخيال أن يحتمل إنسان ما عشناه من موت ونزوح وغدر يحيط بنا من كل مكان، فلولا عناية الله بقلوبنا لذابت كمدا، فكان عناية الله عز وجل هي السند الذي حال دون انهيار العقول وذوبان القلوب أمام قسوة المشهد".

الشاعرة سمية عصام وادي
غياب الحياة وميلاد مبادرات العلم والأدب بين الخيام
لم تكن سمية في بداية الحرب قادرة على ممارسة أي نشاط أدبي أو إنساني، فالحياة بالنسبة لها في هذا الوقت توقفت بالكامل، حيث تشرح هذه الفترة: لا إنترنت، لا تواصل، لا مدارس، لا موارد غذائية ولا مقومات للحياة، وكان الهم الوحيد توفير الخبز والماء، خاصة لمن لديه أطفال.
شئ ما تغير بعد أسابيع طويلة من الضياع، بدأت روح التكيف تنبض من جديد، أقامت الشاعرة الفلسطينية وعدد من المعلمات مبادرات تعليمية لأطفال المخيمات، يدرسونهم المبادئ الأولى في الخيام، ويجمعونهم حول بقايا دفاتر، وكانت تقيم فعاليات أدبية صغيرة بين أماكن النزوح، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من الذاكرة والهوية.
كانت سمية تدرك أن الاحتلال لا يقتل الأجساد فقط بل يهدف لقتل الوعي أيضا، وتقول :"بعد وقتٍ كان هناك نوع من التعايش، فأقمنا مبادرات تعليمية وفعاليات أدبية بين الخيام".

الشاعرة الفلسطينية سمية وادى خلال الحرب
النزوح جماع آلام الحياة
من أصعب ما تسرده سمية هو تجربة النزوح، حيث تتحدث بمرارة: "النزوح جماع آلام الحياة"، فلم تجد كلمة في اللغة تعبر عن حقيقة الوجع أكثر من هذا لأن النازح لا يترك بيته فقط، بل يترك كرامته، ذكرياته، أشياؤه الصغيرة التي صنعت هويته، ليمشي نحو خيمة لا تليق بإنسان، فتارة يحرقه الشمس، وتارة أخرى يهوي فوقه المطر، وثالثة تغزوه الحشرات، أو يتربص به الجوع والخوف.
نزحت سمية ثلاث مرات مع أطفالها، وفي كل مرة كانت تشهد تفككا آخر للعائلة، وتشتتا جديدا للأصدقاء والجيران، في إحدى مراحل الحرب - كما تقول الشاعرة الفلسطينية - عاشت مع ما يقارب 30 شخصا في مساحة 80 مترا فقط، فلم تكن الحياة هناك حياة، بل تنفسا مؤقتا بين موجتين من الألم.

سمية وادي خلال إلقائها دروسا خلال الحرب
الفقد وجع بلا جلد يحتمل
لا توجد قصة صمود بلا فصول فقد، لكن صاحبة قصتنا حملت نصيبا يفوق قدرة القلب، فتقول بصوت يغشاه الحزن: "فقدت زوجة أخي، استشهدت وأطفالها نائمون في حضنها"، لم يكن ذلك الفقد وحده، بل هناك أيضا إصابة أمها وأخواتها وأطفالهن، واستشهاد 15 من أولاد عمومتي، وفقدت العشرات من الأصدقاء والزملاء والجيران، كلهم غابوا تاركين ورائهم جرحا لا يندمل"، كما تضيف عن تلك اللحظات: "سيبقى جرح فراقهم مفتوحًا للأبد".
ابنة السبعة أعوام تقرأ الدعاء
تعرضت سمية وأطفالها للقصف مرات عديدة، لكن أصعب تلك اللحظات كانت حين دخلت طائرة "كواد كابتر" قرب منزلهم، تضرب كل من تراه يتحرك، حيث تصف المشهد: خرجنا هاربين بينما كان أحد الشهداء ممددا أمامنا على الأرض، كان الهروب أشبه بسباق بين الحياة والموت.
وفي وسط هذا الهلع، سمعت سمية صوتا صغيرا خلفها، ابنتها ذات السبعة أعوام تقرأ الأدعية بصوت يرتجف، تحاول أن تحتمي بالله أمام آلة لا تعرف الرحمة، قائلة: "تفاجأت بها تتلو الذكر رغم خوفها مشهد لن أنساه.
البيت المقصوف الذاكرة التي تهدمت مرتين
خلال تصفحنا حساب سمية وادي عبر فيس بوك، وجدنا لها صورة وهي داخل بيت مدمر لا نعلم ما إذا كانت هذه الصورة التقطت خلال الحرب أم بعدها، لكننا سألناها عن تفصيل تلك الصورة وقصة هذا القصف.
وتقول: هذا بيت عائلتي الكبير الذي اتسع لأبي وأمي وإخواني، قصف جزئيا فأصلحناه وعدنا له، لكن الاحتلال لا يترك شيئًا يعود إلى الحياة، فبعد فترة قصيرة، قصف البيت مرة أخرى وهدم بالكامل.
تشردت العائلة بأكملها، وتشتت الإخوة والأخوات في خيام مختلفة شمالا وجنوبا، دون سقف يجمعهم كما كان سابقا.

سمية وادي داخل بيت مدمر
المجاعة موت يلبس ألف وجه
أصعب ما واجهته الشاعرة الفلسطينية كان الجوع، فلم يكن مجرد نقص في الطعام، بل مجاعة حقيقية تهدد الأطفال وكبار السن، وتتحدث باستضافة عن هذه الأزمة :"المجاعة موت مركب، كنت أبحث لأطفالي عن أي شيء يحول بينهم وبين الموت جوعا.
خلال رحلة البحث شاهدت سمية مآسي، منها أطفال يبحثون في حاويات القمامة، وطالبة تتناوب مع أختها على حذاء واحد، وأم تأخذ البسكويت من طفلتها لتبيعه وتشتري العدس، وطفل يبكي في المستشفى ليس على وفاة والده بل لأنه جائع ولا يجد خبزا يأكله، مشاهد تدمي القلوب لكن الجميع يعيش نفس المأساه، الجوع والقتل والتشرد، وتعلق سمية: "الجميع جائع ولا أحد قادر على إعطاءه الخبز"
لحظات لا تنسى وفقد يعلق في الروح
وتستعيد أصعب لحظات الحرب: "كل ليلة كانت تبدو الأصعب، ثم يأتي اليوم التالي ليكشف أن الأصعب لم يأت بعد، لكن اليوم الذي فقدت فيه زوجة أخيها كان الأكثر إيلاما، استشهدت في يوم هدنة، تركت جرحا لا يندمل."
أمراض في كل مكان ولا دواء
لم تسلم سمية ولا أطفالها من الأمراض، حيث الحشرات، والبعوض، والالتهابات، والجفاف، والتلوث، ونقص المياه النظيفة، كلها كانت جزءا من يومياتهم، وتتطرق إلى نقص العلاج داخل القطاع قائلة :"المصيبة أنه لا دواء ولا تعقيم، وكلنا كنا نعيش العدوى نفسها."
بعد الحرب… موت جديد بطريقة مختلفة
تصف سمية الأيام التي تلت الحرب بأنها ليست راحة ولا سلاما، قائلة :"الحياة بعد الإبادة موت جديد لأنها لملمة لجراح طويلة، حيث دفن الموتى، إزالة الركام، البحث عن مكان للبدء من جديد، كل ذلك جعل مرحلة ما بعد الحرب أشبه باستمرار للحرب بشكل آخر".
الشهداء من الجماعة الثقافية
وكشفت وزارة الثقافة الفلسطينية، أن عدد الكتاب المسجلين فى اتحاد الكتاب الفلسطيني 200 كاتبا وشاعرا جميعهم أصبحوا نازحين، بجانب استشهاد 20 كاتبا، مشيرة إلى أن عدد المسجلين في اتحاد الفنانين التشكيليين 185 فنانا جميعهم في أماكن النزوح، بجانب استشهاد 30 فنانا تشكيليا.
الخروج أصعب من الموت
كما تؤكد أن الشعب الفلسطيني لم يخضع لمحاولات التهجير رغم المجازر:"بقاءنا هنا صعب، وخروجنا أصعب بل مستحيل، لا كرامة للإنسان إلا في وطنه."
ضحايا الجماعة الثقافية في غزة بسبب الحرب
الشعر مقاومة أخرى
ورغم التعب والدموع، إلا أن سمية حرصت على توثيق المجازر والحرب عبر قصائد شعرية فهذا هو الفن الذي تبدع فيه وتعبر من خلاله عن نفسها، حيث تقول: "حاولت توثيق جزء من مشاعري وجهزت ديوانا بعنوان "قصائد ناجية من الخوارزمية"، كلامها يؤكد أن الكلمة في غزة ملاذا، وسلاحا، وصوتا بديلا لكل من استشهد، والقلم الذي يواجه آلة الطمس الإسرائيلية.
انهيار القطاع الثقافي في غزة
القلم جزء من المعركة
تؤمن سمية بأن المثقفين في فلسطين وخارجها لعبوا دورا مهمًا في توثيق الجرائم، رغم الخطر والتضييق والرقابة ومحاولات إسكات الأصوات :"القلم وقود الثورة وسبيلنا لتوثيق الحق وانتزاع المستقبل"
كما تؤكد أن الرواية الفلسطينية انتشرت عالميًا بفضل جهود الصحفيين والكتاب والمؤثرين العرب والأجانب، لكنها تحتاج إلى دعم أكبر وتوحيد الجهود.
نكبة 48 وحرب غزة التاريخ يتكرر بصورة أشد
ترى الشاعرة الفلسطينية، أن الحرب الأخيرة امتداد للنكبة الأولى، لكنها أكثر قسوة ووحشية، قائلة :"اليوم نحن أكثر وعيا، ولن نواجه مصيرنا بصمت، بل نقاوم بكل الأشكال".
المرأة الضحية الكبرى في كل زاوية
كانت المرأة الفلسطينية، كما تصفها سمية، في مقدمة خط النار الإنساني، فتفقد زوجها أو ابنها، وتتحمل مسؤولية النزوح وتربية الأطفال، وتشعل النار لإعداد الطعام، وتدبر قوت اليوم في غياب كل مقومات الحياة، فأينما كانت المعاناة، كانت المرأة هي الضحية الأكبر.
ما بقي من غزة أمانة في أعناقكم
في نهاية حديثها، تقول الشاعرة سمية وادي: "رسالتي للعالم أن يتدارك ما بقي من غزة وأن يعيد لها الحياة، فوقوفكم معنا هو المؤشر الوحيد على إنسانيتكم، أما الصمت فخيانة لأرواح الشهداء ومعاناة الأحياء."
وأهدتنا في ختام حديثها معنا بعض الأبيات من قصيدة الصمود التي كتبتها خلال الحرب لتوثيق المجازر التي ارتكبها الاحتلال ضد الفلسطينيين، وترصد صمود الفلسطينيين أمام آلة القتل والدمار على مدار أكثر من عامين، حيث تقول :
قد تصمتُ الكلماتُ في أفواهنا
لكن تبوحُ الروحُ بالكلماتِ
وتضيعُ خطواتُ التلاقي بيننا
لكنّ موعدنا المؤجَّل آتِ
سيمرُّ هذا الحزنُ مرًّا فوقنا
وتزولُ من بعد العذاب غيومُه
وتعودُ غزةُ مثلما كانت لنا
وطنًا سماويًّا،، ونحن نجومُه