مها عبد القادر

العام الجديد

الأربعاء، 31 ديسمبر 2025 05:01 ص


تتشكل لحظة زمنية ذات طابع استثنائي مع دقات الساعة في منتصف ليل الحادي والثلاثين من ديسمبر؛ لحظة تتجاوز كونها مجرد انتقالٍ حسابي في صفحات التقويم، لتصبح حالة وجدانية يختلط فيها الأمل بالترقب، ففي تلك اللحظة الفاصلة، يبدو الزمن وكأنه يتوقف برهةً ليمنح الإنسان فرصة نادرة للتأمل والمراجعة، ومساءلة الذات عما كان، وما ينبغي أن يكون، ومع انبلاج فجر العام الجديد، تنبض القلوب بطاقة مختلفة، وتستيقظ مع رغبة صادقة في التغيير، كأن الحياة تفتح صفحة بيضاء، وتدعو الإنسان لأن يخط عليها بوعيٍ أكبر ونية أصلح، حيث يستعيد المرء إيمانه بإمكانية البدء من جديد، بفهم الماضي، وتصحيحًا لمساره، وتجديدًا للعهد مع الله، ومع الذات، ومع القيم التي تمنح الوجود معناه الحقيقي.

وتمثل بداية العام لحظة تأمل واعي، يتوقف فيها الإنسان عند ما أنجزه، وما أخفق فيه، وما تعلمه من التجارب التي مر بها، إنها لحظة مراجعة هادئة، تستدعى فيها الذكريات من أجل الفهم والتقييم واتخاذ العبر، فالماضي مهما حمل من إخفاقات وأخطاء، يظل مخزونًا معرفيًا وخبرةً إنسانيةً لا غنى عنها لصناعة مستقبل أكثر وعيًا واتزانًا، ويمثل العام الجديد فرصة ذهبية لطي صفحة والتعلم منها، وفتح أخرى أكثر اتساعًا للأحلام والطموحات، وهنا يشعر كثيرون منا مع بداية العام بالطاقة، والرغبة الصادقة في التغيير، وكأن النفس البشرية بطبيعتها تميل إلى البدايات، وتجد فيها دافعًا فطريًا لإعادة المحاولة، مهما تكررت العثرات.

ويعد تحديد الأهداف أحد أهم ملامح هذه البداية، فالأهداف، رؤى قابلة للتحقق، تستند إلى وعي بالذات وبالواقع، سواء على الصعيد الشخصي أو المهني أو الاجتماعي، وإعادة النظر فيها أو صياغة أهداف جديدة، تعكس نضجًا فكريًا وقدرة على التعلم من التجربة، فالبدايات الواعية تبنى على فهم ما كان، واستيعاب ما هو كائن، واستشراف ما يمكن أن يكون، ويحمل العام الجديد في طياته وعدًا ضمنيًا بإمكانية التحسن، شريطة أن يقترن الأمل بالعمل والطموح والاجتهاد، فالتغيير يتطلب إرادة، وانضباطًا، وصبرًا، والعمل علي التخطيط للمستقبل.

ويمثل العام الجديد فرصة للتصالح مع الذات والآخرين، ولمراجعة العلاقات الإنسانية، وتجديد الروابط مع الأهل والأصدقاء، وفتح صفحات جديدة قائمة على التسامح وتجاوز الخلافات، فالحياة، شبكة من العلاقات، ولا يمكن للإنسان أن يشعر بالاكتمال أو السلام الداخلي وهو مثقل بقطيعة وجدانية أو خصومات مؤجلة، ومن ثم، فإن البدايات الجديدة لا تكتمل دون مصالحة داخلية وخارجية، تعيد للروح توازنها وللقلب صفاءه.

وليكن العام الجديد بدايةً مفعمةً بالأمل والإيجابية، لمواجهة الواقع فالنظر إلى الأمور من منظور إيجابي يعني إقرار بالتحديات والإيمان الراسخ بالقدرة على مواجهتها وتجاوزها، ومن ثم يصبح التفاؤل طاقة داخلية متجددة، تدفع الإنسان إلى الاستمرار، وتمنحه الثقة بأن كل تحد يحمل في طيّاته فرصة للتعلم والنمو، فمن كل محنة تنبت بذور الصبر، أما الفشل، فهو محطة من محطات الرحلة الإنسانية، يتعلم فيها المرء ما لا يتعلمه في لحظات النجاح، هو مساحة للمراجعة وإعادة التقييم، وفرصة لإعادة ترتيب الأولويات وبناء الخبرة.

وتتجلى في مطلع كل عام جديد قيمةُ الإصرار فهي أساس كل بداية صادقة؛ فالإصرار على المحاولة، وتجاوز العقبات، والنهوض بعد كل تعثر، هو ما يحول الأحلام من مجرد أمنيات مؤجلة إلى إنجازات ملموسة على أرض الواقع، وهذا لا يقلل من شأن التفاصيل الصغيرة عن الطموحات الكبرى، فالأعمال البسيطة، مهما بدت متواضعة، قادرة على إحداث الفارق وصناعة الأثر، حيث إن اللطف في التعامل، والتعاطف مع الآخرين، ومبادرات الخير اليومية، تشكل رصيدًا إنسانيًا تراكميًا يعزز الروابط الاجتماعية، ويعيد للإنسان الثقة في الإنسانية، ويجعل العالم، أكثر رحمةً وأقل قسوة، ومن ثم يصبح العام الجديد موعد للأمنيات، ومساحة للفعل الواعي، ومسؤوليةً أخلاقية تترجم الأمل والإيجابية إلى سلوك ممارس متجدد، وأثر طيب يمتد في الحياة ويترك بصمته.

ويعد العام الجديد فرصةً مواتية لإعادة النظر في العادات اليومية التي تشكل النسيج الخفي للحياة؛ فالتغيير الإيجابي لا يشترط دائمًا اتخاذ قرارات جذرية أو قفزات مفاجئة، بل قد يبدأ بخطوات صغيرة واعية، كتحسين نمط الحياة الصحية، أو تخصيص وقت منتظم للرياضة أو القراءة، أو الإقبال على تعلم مهارة جديدة، فهذه التغييرات وإن بدت محدودة في ظاهرها، إلا أن أثرها التراكمي على المدى الطويل يكون مؤثر ومستدام، كما إن التخلص من العادات السلبية يمثل خطوة أساسية في مسار التحسن الذاتي؛ فسواء ارتبطت هذه العادات بالتسويف، أو بالتفكير السلبي، أو بإهمال الذات، فإن مطلع العام يمنح الإنسان فرصةً واعية لإيقاف الحلقة المفرغة والمكررة، واستبدالها بسلوكيات أكثر إيجابية ونضجًا تحقق جودة الحياة، وتمنح شعورًا متناميًا بالسيطرة على المسار الشخصي، وتجعل التغيير فعلًا متدرجًا قابلًا للتطور والاستمرار.

ويحتل الامتنان مكانةً مركزية في فلسفة البدايات الجديدة؛ فالامتنان ممارسة نفسية وأخلاقية واعية، تعيد توجيه الانتباه من منطق النقص إلى منطق الوفرة وتقدير النعم، فالإنسان عندما يتعلم أن يقدر ما يملكه، سواء أكانت نعمًا مادية أم معنوية، فإنه يقوي شعوره بالرضا الداخلي، ويخفف من وطأة القلق والتوتر، ويعيد بناء علاقته بالحياة على أساس القبول والرضا؛ حيث تسهم ممارسة الامتنان بانتظام في تحسين الصحة النفسية، وتعزيز العلاقات الاجتماعية، وزيادة الشعور بالسعادة والاستقرار، فالأشخاص الممتنون يميلون إلى تقدير الآخرين، والتعبير الصادق عن الشكر، وبناء علاقات تقوم على الاحترام المتبادل والتفهم الإنساني، وبذلك يصير الامتنان قوة اجتماعية ناعمة، تشجع على العطاء، وينمي روح التضامن، ويسهم في صناعة مناخ إنساني أكثر دفئًا وتماسكًا في بدايات عام جديد.

ويدعم الاحتفال باستقبال العام الجديد مع العائلة والأصدقاء شعور الانتماء، ويمنح الروح دفئًا خاصًا عبر ذكريات جميلة تبقى أثرًا ممتدًا في الوجدان، ففي خضم الانشغال بالتخطيط للمستقبل واستحضار الطموحات والتطلعات الكبرى، تظل قيمة اللحظة الحاضرة هي المجال الوحيد الذي يمكن فيه تحويل الأمل إلى واقع ملموس، ومن ثم فالعام الجديد دعوةً مفتوحة لبداية أكثر وعيًا، وحياة أكثر توازنًا، دعوة لأن نجعل من كل يوم فرصة جديدة، ومن كل تجربة درسًا، ومن الأمل قوة دافعة للعمل فالمستقبل يبنى خطوة خطوة، بعقل متفائل، وقلب ممتن، وإرادة صلبة لا تعرف الاستسلام، ولا تعترف بالمستحيل.

وفي نهاية عام وبداية عام، يبقى الزمن شاهدًا لا يجامل، ويظل الإنسان هو المعني الأول بأفعاله واختياراته، وبصدق النوايا، واستقامة السعي، فكل عام جديد روح تختبر أتحسن العهد مع الله، أم تكرر الخطأ بثوب جديد؟ فالعمر يشمل عدد الأيام التي نعيشها، والاهم عدد اللحظات التي نحسن فيها الاختيار، وننتصر فيها على اليأس، ونقترب خطوة من صورتنا الأفضل، فليكن التغيير مسؤولية تتجدد يوميًا، وليكن كل صباح بداية، ولنحمل معنا شعورًا متجددًا بالأمل والعمل، ولنغتنم كل يوم كفرصة للتغيير والتحسين، ولنتذكر قول إيليا أبو ماضي (كن بلسمًا، فالحياة حب وجمال)، فلتكن أيامنا القادمة بلسمًا لنا ولمن حولنا، نصنع فيها الخير، ونزرع الأمل، فالعمر يمضي سريعًا، وما يترك أثرًا حقيقيًا هو الحب والعمل والإيجابية.

___

أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة