"الست".. وجه وثلاثة أقنعة

الأربعاء، 31 ديسمبر 2025 04:00 م
"الست".. وجه وثلاثة أقنعة أم كلثوم

كتب محمد عبد الرحمن

عرف الإنسان منذ القدم علم الفلك، فسر حركة الكون، وصل إلى الفضاء، فك طلاسم النجوم والمجرات، واقترب من أسرارها العميقة، لكن يبدو أن كوكبًا واحدًا فقط ظل عصيًّا على الفهم الكامل، كوكبًا لم تفسر جاذبيته، ولم تُفك شفرة سطوته على القلوب رغم مرور السنين وتغير الأزمنة، إنه كوكب الشرق أم كلثوم.

ما من امرأة امتلكت قلوب المصريين، كما امتلكتها أم كلثوم، تلك الفتاة القروية التى خرجت من قرية بسيطة على أطراف الحياة، لتصير قلب هذه الحياة نفسها. جاءت بثوبها الريفى وصوتها السماوي، فملأت الأرواح قبل المسارح، وأخذتنا من ضيق الواقع إلى سعة الحلم، ومن ثقل الأيام إلى خفّة الطرب، ومن الأرض إلى حدود السماء، كأنها تنقلنا، مع كل مقطع، إلى فراديسٍ مؤقّتة لا نغادرها إلا على وعد بالعودة.

أم كلثوم لم تكن مجرّد صوتٍ جميل، بل كانت حالةً إنسانية كاملة؛ مزيجًا نادرًا من الصرامة والحنان، من القوة والضعف، من الانضباط الفنى والاندفاع العاطفى فى صوتها وجد العاشق عزاءه، ووجد المنكسر مرآته، ووجد الحالم طريقه، كانت تغنّي، فيصمت الزمن، وتتوحد القلوب على اختلاف طبقاتها وثقافاتها، كأن صوتها لغةٌ كونية لا تحتاج إلى ترجمة.

هكذا كانت الأسطورة التى صنعتها أم كلثوم عن نفسها، وصنعها الناس عنها فى الوقت ذاته، صور وأقنعة متعددة عن سيدة واحدة، وضعتها فى مصاف الأبطال الشعبيين، كأن هذا الصوت الساحر كان يمتلك قدرة خفية على صناعة القوة؛ يزيل الخوف من القلوب، ويملأها بالأمل، ويغمرها بالخيال.

فالناس، كلما أحبوا أحدًا، تداولوا سيرته وكأنه بطل خارق، حتى وإن كان فى جوهره إنسانًا بسيطًا ضعيفًا، لكن الحب وحده قادر على صناعة المعجزات، يصورونه فيلسوفًا حتى وإن لم يكتب سطرًا فى الحكمة، هكذا يصنع الوجدان الشعبى أبطاله، وهكذا صُنعت أم كلثوم فى الوعى الجمعي.

ومن هنا، جاءت صورة أم كلثوم فى الأعمال الدرامية المختلفة، وعبر الوسائط الفنية المتعددة من سينما ومسرح وتلفزيون، متنوّعة ومتباينة، كأننا أمام عدة أشخاص لا امرأة واحدة، تعددت الصور والرؤى والتأويلات؛ لكنها تبقى حقيقة واحدة، أم كلثوم الأسطورة التى تتجاوز حدود الزمان والمكان.

مسلسل "أم كلثوم"… صورة ملائكية عن الست

عام 1999، قدّمت المخرجة أنعام محمد على واحدًا من أجمل أعمال السيرة الذاتية فى الدراما العربية، حين أسندت دور أم كلثوم إلى الفنانة صابرين، غير أن هذا العمل لم يسعَ إلى هزّ الصورة المترسخة فى وجدان الجمهور عن "الست"، ولم يحاول زعزعة الأسطورة التى أحاطت بها، بقدر ما سعى إلى ترسيخها وتعزيزها فى الخيال الجمعي، فقدّمت أنعام محمد على صورة شبه ملائكية، مثالية إلى حد كبير، لهرم الغناء العربي.

ربما لم يتعمق المسلسل كثيرًا فى الجوانب الإنسانية لأم كلثوم، ولا فى التعقيدات النفسية التى أسهمت فى صناعة هذه الأسطورة على مستوى الوعى الجمعي، بل فضل التركيز على إنجازاتها، وجوانبها الإيجابية، ومسيرتها الصاعدة بوصفها نموذجًا نادرًا للنجاح والانضباط والإخلاص للفن.

ويبدو أن إنعام محمد على والكاتب محفوظ عبد الرحمن كانا "كلثوميين" أكثر من أم كلثوم نفسها فى معالجتهما لسيرتها، فالست فى العمل لا تخطئ، ولا تكره، ولا تبغض أحدًا، حتى صراعاتها جاءت ناعمة، أقرب إلى الاختلافات العابرة منها إلى التناقضات الإنسانية الحادة التى تصنع الدراما.

حتى حين تم اختيار بطلة العمل؛ وقع الاختيار على صابرين، شابة جميلة تمتلك مواصفات جمالية قريبة مما يحبه أغلب المصريين، حتى وإن لم تكن تشبه أم كلثوم شكليًا، وحتى وإن لم تكن "الست" نفسها على هذا القدر من الجمال وفق المقاييس التقليدية، إلا أن هذا الاختيار بدا مناسبًا تمامًا للصورة الذهنية التى رسمها الجمهور لأم كلثوم، وكأنها امرأة استثنائية لم يروا مثلها من قبل ولن يروا مثلها من بعد.

من هنا، يظل مسلسل "أم كلثوم" الأقرب إلى قلوب جمهور واسع لا يحب أن يرى الست إلا ملاكًا ومخلِّصًا، رمزًا نقيًا بلا شوائب، حتى وإن جاء ذلك على حساب تعقيد الشخصية وعمقها الإنساني.

"أم كلثوم.. دايبين فى صوت الست" أسطورة عارية من التنميط
 

خلال العام الحالي، قدم المخرج أحمد فؤاد، بالتعاون مع المؤلف مدحت العدل، معالجتهما لسيرة كوكب الشرق أم كلثوم، لكن هذه المرة دون السعى إلى الاقتراب من معالجة المسلسل الكلاسيكى سالف الذكر، لم يحاول فؤاد أو العدل إعادة إنتاج الصورة الملائكية المألوفة، بل قدما رؤية مغايرة تنفذ إلى العوامل الاجتماعية والنفسية التى صنعت الأسطورة.

منذ اللحظة الأولى، يأخذنا العرض إلى بنية سردية خاصة به، لا تنشغل بتقديس الرمز بقدر ما تبحث عن الإنسان الكامن داخله، وتستكشف الدوافع العميقة التى جعلت من أم كلثوم أسطورة تتجاوز حدود الزمان والمكان. هنا لا تكون "الست" أيقونة مكتملة الصلابة، بل كائنًا بشريًا فى طور التشكل الدائم، تصنع ذاتها بوعى وإصرار وخيارات صعبة.

بشكل عام، اختار مدحت العدل فى بنيته السردية التركيز على العوامل النفسية داخل شخصية أم كلثوم، أكثر من التركيز على الجوانب الفنية أو الاجتماعية وحدها، وهو ما منح العمل طابعًا تأمليًا واضحًا فى تناوله لسيرتها المهنية والشخصية، وقد استعاض المؤلف عن التحليل المباشر والخطابي، بالاقتراب من مفاهيم مثل الثقة بالنفس، والالتزام الصارم بالفن، والقدرة على الصمود، بوصفها مفاتيح أساسية لفهم جاذبية أم كلثوم واستمراريتها.

ينجح العرض، بذلك، فى تهشيم الصورة الأسطورية البراقة لصالح صورة بشرية أكثر قربًا وصدقًا، دون أن ينتقص من قيمتها أو رمزيتها. فهو لا يسقط فى فخ التقديس السطحي، ولا ينجرف نحو التفكيك العدائي، بل يعيد بناء الأيقونة على أساس إنساني، نفسي، وواقعي، بعيدًا عن المثالية الصمّاء.

 

"الست"… البحث عن القوة فى قلب الوحدة

تأتى أحدث المعالجات الفنية لشخصية كوكب الشرق أم كلثوم عبر فيلم "الست"، بطولة منى زكي، وإخراج مروان حامد، وتأليف أحمد مراد، بوصفه محاولة جديدة لاختراق الأسطورة وإعادة النظر فى المرأة التى أُحيطت طويلًا بسياج فولاذى من التقديس.

الفيلم منذ البداية حاول أن يقترب من أم كلثوم لا باعتبارها رمزًا خالدًا فحسب، بل كإنسانة تشكّلت مبكرًا بروح مختلفة، أكثر جرأة وتجريبًا من مجتمعها الريفى المحافظ، كما يصورها مراد منذ البدايات الأولى، معتمدًا على سردًا غير خطى يبدأ من لحظة سقوطها على المسرح، فى إشارة دالة إلى انكسار الجسد وتصدّع الهالة، ليقدم صورة مغايرة لكوكب الشرق، تركز على الجانب الإنسانى وصراعاتها الشخصية وعلاقاتها المعقدة بالرجال، بعيدًا عن الصورة الأيقونية الراسخة فى الوعى الجمعي.

هكذا سعى العمل إلى "أنسنة" أم كلثوم، عبر التوغّل فى حياتها الخاصة ومواقفها السياسية، كاشفًا عن وحدتها وعزلتها خلف الأضواء، امرأة تخاف من الفقر، تعانى المرض والضغوط العصبية، وتنزع عن نفسها هالة القداسة، لتظهر فى لحظات ضعفها وصراعاتها الداخلية، خاصة فى مواجهة غياب العائلة عن حياتها، ووحدتها داخل منزلها بالقاهرة بعد ثورة يوليو. وحدةٌ تزداد قسوة كلما اتسعت دائرة الشهرة، ليصبح المجد ذاته عبئًا نفسيًا.

غاص أحمد مراد فى تفاصيل حياتها الشخصية وتضحياتها، فى محاولة لكشف الإنسانة خلف الفنانة الأسطورية، ويقدّم سردًا أكثر وضوحًا عن صراعها المزدوج مع السلطة والبيئة الذكورية، وكيف نجحت فى اختراق هذه البُنى الصلبة لتصنع حضورها الفنى والوطني، لا بوصفها صوتًا فقط، بل كقوة استثنائية تشكّلت من الوحدة، وتحوّلت إلى رمز.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة