كانت الحفلة الثانية لأم كلثوم على المسرح القومى فى أم درمان بالسودان تقترب من بدايتها، يوم 30 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1968 وكانت شوارع مدينة الخرطوم تخف من الحركة تدريجيا، وتشهد زحاما فقط أمام محلات بيع أجهزة التليفزيون التى أقبل الناس على شرائها إقبالا كبيرا، وبلغ ما بيع منها فى أسبوع وجود سيدة الغناء العربى بالسودان ما يساوى المباع خلال عام كامل، وفقا للكاتب الباحث كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
كانت حفاوة السودان رسميا وشعبيا بأم كلثوم هائلة منذ وصولها إلى الخرطوم يوم 25 ديسمبر 1968، لإحياء حفلتين ضمن مشروع حفلاتها لصالح المجهود الحربى الذى بدأته بعد نكسة 5 يونيو 1967، وشهدت الحفلة الثانية أحداثا لافتة بدأت بمصادفة زيارة الرئيس البلغارى «تريكوف» للسودان يرافقه وفد كبير، فقرر الرئيس السودانى إسماعيل الأزهرى دعوتهم للحفلة، واشترى 40 تذكرة لهم، وذهل «تريكوف» من حجم الاستقبال الكبير لأم كلثوم، وعندما علم بهدفها النبيل وهو دعم المجهود الحربى، اشترى تذكرة بألف جنيه دفعها من جيبه الخاص كمساهمة منه.
قدمت أم كلثوم فى حفلتها الثانية أغنيتين، الأولى «فات الميعاد» وغنتها للمرة الأخيرة على المسرح، وفى نهاية المقطع الأول تملكتها السلطنة فغنت «إن كان على الحب القديم وأساه» بارتجال سريع، فكان سابقة لم تحدث قبل ذلك، ما شجعها على أن ترتجل فى المقطع التالى للأغنية «الليل ودقة الساعات تصحى الليل»، وأدته بسلطنة كبيرة.
وفى وصلتها الثانية استجابت لنداءات تلقتها قبل الحفل بإعادة غناء قصيدة «هذه ليلتى» التى قدمتها فى الحفلة الأولى، ويذكر «جمال»: بدأت الفرقة فى العزف فصاحت الجماهير السودانية، بعد ما علموا أن أم كلثوم لبت رغبتهم وأعادت تقديم «هذه ليلتى»، وكانت الجماهير فى غاية السعادة، وحركتهم المقاطع الراقصة فى القصيدة لدرجة أن المستمعين فى الدرجة الثالثة كانت تهتز أجسامهم طربا ونشوة ورقصا، وحاولت أم كلثوم أن تسودن «هذه ليلتى»، وتخضعها تماما للمزاج السودانى من حيث طريقة الأداء والغناء، وتحديدا غناؤها للمقطع الأخير، وعندما وصلت إلى مقطع «وليكن ليلنا طويلا/ فكثير اللقاء كان قليلا»، صاح أحد الحضور «للصبح يا ست».
يضيف كريم جمال: أعادت أم كلثوم المقطع مرات ومرات وفى كل مرة لا يكف الجمهور عن طلب الاستزادة، فلم تجد أم كلثوم بدا من فى النهاية من أن تتوقف وارتسمت على وجهها ابتسامة، وأشارت بيديها وكأنها تخاطب الجمهور بما معناه «وبعدين»، فألهبت تلك الحركة الجماهير الذين رددوا على معنى سؤالها بنفس الإجابة التى لم تتغير إذ صاحوا مرة أخرى: «للصبح يا ست يا كريمة».
بلغت أم كلثوم ذروة تجليها الغنائى فى «هذه ليلتى»، ويذكر كريم جمال أنها بدت وهى تؤدى المقطع الأخير وكأنها تردد ترتيلا دينيا، لدرجة أن وزير الإعلام السودانى عبدالماجد أبو حسبو، شوهد وهو يبكى عند غنائها «سهر الشوق فى العيون الجميلة/ حلم آثر الهوى أن يطيله/ وحديث فى الحب/ إن لم نقله/ أوشك الصمت حولنا أن يقوله»، ووصف «أبو حسبو» حالته عند سماع هذا المقطع، قائلا للكاتب الناقد رجاء النقاش الذى كان ضمن الوفد الإعلامى لهذه الرحلة: «كنت أحس أننى فى حالة عبادة وأنا أسمع أم كلثوم وهى تغنى هذا البيت، ونقلت إليها هذا المعنى، فقالت إنها تعتبر أداءها لهذا البيت نوعا من الترتيل».
يربط «جمال» بين حالة «أبو حسبو» أثناء هذا التجلى من أم كلثوم، وحالة شاب سودانى أقدم على تصرف فاجأ الجميع، حيث اندفع متخطيا كل صفوف الجالسين لدرجة أنه مر من قلب الجزء الذى يجلس فيه أعضاء مجلس السيادة السودانى، وقفز إلى المسرح وأمسك بيد أم كلثوم وراح يقبلها، فتحركت قوات الأمن وأمسكت بالشاب الذى ظل يردد: «افعلوا بى ما تشاءون بعد أن قبلت يد كوكب الشرق»، وظل الشاب يقبل يده بعد ذلك لأنها اليد التى صافحت أم كلثوم، وما إن تركته قوات الأمن حتى هجم عليه أصدقاؤه يقبلون يده التى لا مست يدها.
كان هناك مشهد آخر أكثر إثارة، حيث فوجئت أم كلثوم بمجموعة سودانيين عبروا عن اندماجهم مع الغناء بطريقة غريبة، وهى قيامهم بتأدية الصلاة أثناء غنائها، وأربك هذا التصرف البعض، واستغربته أم كلثوم، ولكن عندما انتهوا من صلاتهم، قالوا إنهم فعلوا ذلك تحت تأثير العاطفة الحارة التى ملأت صدورهم أثناء الغناء، وكانت صلاتهم صلاة شكر لله الذى منحهم تلك اللحظة التاريخية، ووهبهم ذلك الصوت الإلهى.
ظل الجمهور السودانى منتشيا بغناء أم كلثوم، ورغم أن الساعة تجاوزت الثانية صباحا، وأسدل الستار مرة، إلا أن صيحات الجماهير لم تنقطع وطالبت بعودتها للغناء، فعادت لتعييد المقطع الأخير من «هذه ليلتى» التى أدتها فى ثلاث وسبعين دقيقة.