في بدايات العلاقات، نظنّ أن القرب دليل محبة، وأن السؤال علامة اهتمام، وأن الكلمات الطيبة انعكاس لصدق القلوب.
نُحسن الظنّ بطبيعتنا، ونفتح الأبواب دون حساب، ونمنح من وقتنا ومشاعرنا ما نظنه استثمارًا إنسانيًا في علاقة ستدوم.
نعتقد أن الودّ إذا بدأ صادقًا، فسيبقى كذلك، وأن القلوب التي تطرق بابنا اليوم ستبقى قريبة غدًا.
غير أن الأيام — وهي أصدق المعلّمين — تكشف ما تخفيه البدايات.
فمع مرور الوقت، تتعرّى النوايا، وتتبدّل الوجوه، ونكتشف أن بعض القلوب لا تعرف طريقها إلينا إلا حين تضيق بها السبل.
يظهرون فجأة، يسألون بلهفة، ويُتقنون لغة الاهتمام، ويُكثرون من السؤال والود، حتى يخال المرء أنه موضع تقدير خاص.
لكن ما إن تُقضى الحاجة، حتى يخفت الصوت، ويغيب السؤال، وكأن العلاقة لم تكن سوى جسر مؤقت للعبور.
تمرّ الأيام، وربما الأسابيع، ونحن غائبون، متعبون، مثقلون بما لا يراه أحد، فلا يسأل سائل، ولا يطرق باب.
ثم تأتي مناسبة ما، فيعودون بعبارة محفوظة، وكأنها تكفي لترميم ما انكسر:
كل عام وأنت بخير.
لكن الحقيقة أن بعض الكلمات، مهما كانت جميلة، لا تملك القدرة على إحياء ما أهمله الغياب الطويل.
ليس الوجع في قلة السؤال، فلكل إنسان حياته وظروفه، ولكن الوجع الحقيقي أن يُختزل الإنسان في نفعه، وأن تُقاس قيمته بقدر ما يُقدّم لا بقدر ما هو عليه.
فالعلاقات التي لا تصمد إلا وقت الحاجة، ليست علاقات، بل مصالح مؤقتة تتخفّى بثوب الود.
ومع اقتراب نهاية العام، يبدأ شريط الذكريات في الدوران دون استئذان. نتأمل الوجوه التي مرّت، والمواقف التي كشفت الكثير، ونسأل أنفسنا بصمت:
من كان حاضرًا حين غبنا؟
من سأل دون سبب؟
من شعر بغيابنا قبل أن نُعلن عنه؟
وهنا تتضح الحقائق بلا ضجيج، ويدرك الإنسان أن بعض الغياب لم يكن خسارة، بل كان نجاة هادئة من علاقات مُرهِقة.
في هذه اللحظة، لا يكون المطلوب قسوة ولا قطيعة، بل وعي.
وعي بأن نضع كل إنسان في مكانه الطبيعي، فلا نُفرط في العطاء لمن لا يعرف قيمته، ولا نُحمّل قلوبنا فوق طاقتها. نُحسن دون سذاجة، ونحب دون أن نُستنزف، ونعفو دون أن نُعيد الخطأ ذاته.
فالقيمة الحقيقية لا تُقاس بعدد من يسألون، بل بصدق من يبقون، وبثبات من يحضرون في الغياب قبل الحضور. ومع هذا الفهم، تهدأ الروح، ويصفو القلب، ويصبح السلام الداخلي أغلى من أي علاقة مُربِكة.
وفي الأخير :
هناك من يحضر حين تقتضي المصلحة، ويغيب حين لا يعود في الغياب نفع.
وهناك من يُجيد الظهور، لكنه لا يُجيد البقاء.
الوجوه معروفة، والتفاصيل لا تخفى، والغياب حين يطول يصبح لغةً مفهومة لا تحتاج إلى تفسير.
ليس في الأمر غضب، ولا عتاب، بل وعيٌ يتشكّل مع الزمن.
وعيٌ يُدرك أن القرب لا يُقاس بالكلمات،
وأن الود لا يُثبت عند الحاجة، وأن بعض الغياب أصدق من ألف حضورٍ متكلَّف.
فليعلم من يعنيه الأمر أن العلاقات لا تُقاس بكثرة الظهور، ولا تُبنى على المواسم، وأن القلوب لا تخطئ الإحساس بمن يقترب لمصلحة،
ومن يقترب لصدق.
وفي النهاية، يمضي كلٌّ إلى موضعه الطبيعي،
لا خصومة، ولا ضجيج،
بل وعيٌ هادئ يقول:
إن الحياة أقصر من أن تُمنح لمن لا يعرف قيمتها.